مجلة البعث الأسبوعية

أبي ــ سقف العالم

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

 

رحلة إلى السماء

أمتع الرحلات أبداً كانت رحلتنا الأولى ونحن نوزع قطعان الغيم فرادى وجماعات وكراديس، نشكلها ملوكاً ووزراء وقلاع وأحصنة وفيلة وبيادق، ورقعة “شطرنجنا” كانت السماء، هي ملكنا، ونحن أمراء الحكايات فيها! كيف لا، ونحن متربعون على أكتاف أطهر الخلق، يمشي بنا نحو الحقل، ونحو الروضة، ونحو الفرن، ونحو دكان السكاكر الملونة؟! كيف لا نكون أبطال السير الشعبية، وعلى هذه الأكتاف كان يحملنا أولئك القديسون الطاهرون، وهم يغنون لنا الموليّا والعتابا وأهازيج الصباح الندي، ويلقنوننا دروس العلاقات الاجتماعية البكر، ومحبة الجار وصلة الرحم، وإلقاء التحية حتى على حجارة القرية، وأكمام الجوري، وبتلات الأقحوان، يفقهوننا بعلوم الفراسة، وحراثة الأرض، وأوان بذار الحب، وأوان حصاد الأحبة، يعلمنا الأب، منذ نعومة الأظفار، أن نكون ما نحن عليه الآن؟! كيف ذلك؟! لا أحد لديه جواب يفضي إلى تلمس خارطة المعادلات الواضحة في هذا الشأن!! فقط، حين نكبر، ونصبح آباء، ندرك أن ذلك محفور في جيناتنا – نحن السوريين – وربما منذ أزل الخليقة مكتوب في رُقُم أقدارنا وألواح هبات هذه الأرض.

 

القديس النبيل

القيمة العليا للرموز الملهمة في قصص الأطفال لا بد أن يكون رمز الأب بينها في الصف الأول، كتفاً بكتف مع قيمة ورمزية الأم.. الأب هو جبل حمايتنا، ومصدر أماننا، ومقيل عثراتنا، يجب أن تتعزز هذه القيمة، وألا تهدر في سخريات عبثية وطرف وتندرات، هنا وهناك، تسيء لهذا الرمز العظيم.

تقع في يدي، بين فينة وأخرى، وأنا أدير مشروعاً ما للطفولة، نصوص تتحدث – بطريقة أو بأخرى- عن أب يكذب لتمرير رسالة ما، أو يطلق النكات السقيمة، أو يتصرف بطريقة لا تليق، كنوع من الظرف والدعابة.. وكل ذلك ظناً من الكاتب أنه يتفنن، أو يأتينا بما هو عصري وجديد!! ما هكذا تورد الإبل، فمهما كانت المفردات حداثوية، أو تتلمس التطوير والتحديث في ثقافة الطفل وأدبه، فإن القيم المثلى العظيمة لا يجب أن تمس، ولا أن يتم التطرق لها بطريقة غير لائقة، أو تشي بنوع من قلة التهذيب في التعاطي معها.

قدسية الأب خط أحمر لا يمكن تجاوزه، أو اجتيازه، يأبى إلا أن يكون في وجداننا ذاك الألق الملهم، والسند الداعم، ملجأ الأحلام، ومهوى جبيننا وقت الهموم.

 

بطل من نوع خاص

تزخر القصص العالمية، بكل مشاربها، بحكايات عن آباء أفنوا أعمارهم في تربية بناتهم على الفضيلة، وتربية أبنائهم على الفروسية والشهامة والنبل، أكان الأب فيها ملك الملوك، أم كان فلاحاً فقيراً يسكن في كوخ من الخيزران، فلماذا لا يكون الأب السوري بطلاً في قصص أبنائنا: الفلاح، العامل، التاجر، بائع العرقسوس، المعلم، المهندس، الطبيب، والجندي؟! كل بيت، وحي، وقرية، ومدينة تزخر بآلاف قصص التضحيات النبيلة التي تليق بأن تكون مشاريع صناعة قدوة حسنة، وملهمة لأطفالنا، لماذا لا نغرق في محلية مفرداتنا، ونستنبط من واقع طفلنا أبطال حكاياته؟!

وإن أردنا فعل ذلك ضمن مشروع وخطة وطنية فاعلة – لا تنظيرية – فسنجد في قصص آبائنا، وآباء أحبتنا، آلافاً مؤلفة من الحكايات والعبر! وفي استعراض سريع لما ننتجه في ثقافتنا للأطفال، بكل مشاربها، نجد أنه من النادر أن نجد قصة تتحدث بقوة عن الأب ودوره وفاعليته، وإن وجدت تلكم القصص فإن دور الأب يأتي داعماً أو ثانوياً لتبيان أمر ما، أو عملية إسناد لباقي عناصر القصة، بأن يأتي – مثلاً – ليلقي موعظة هنا، أو يحمل عبء مشكلة هناك، ثم يقول كلامه المصفوف كنصيحة ويمضي!! أظن أن من واجب أدب الطفل أن يتعمق أكثر في رسالة ودور الأب في بناء مخيلة الطفل وذائقته وتربيته السليمة.

 

بين راحتيه والسماء مسافة من حب

كان لأبي دكان صغير يصنع فيه أنواعاً من الحلوى ليطعم الناس حلو المذاق، يصنع براحتيه العجينة الخاصة بـ “الشعيبيات”، ومعها يشكل ذائقتي، وفلسفة الحياة التي يريد أن يورثني إياها مما اكتسبه من خبرات؛ كان يريد لي ولأخوتي ما لم يستطع تحقيقه لنفسه؛ وبكامل بهاء الكلمة كان يقتطع من أكتافه ليطعمنا، ويربينا، ويعلمنا، لنكون ما أرداه لنا أن نكون؛ وأذكر أنه عندما قررت دخول المحظور في دراسة الفنون الجميلة – وكان الأمر مستنكراً من الجميع حولي – قال لي: “أنا أذكر أني كنت أرميك للأعلى، وأتلقفك بيدي، لأشعرك بأني موجود دائماً لدعمك، وبهذه الطريقة نفسها في التعامل سيكون كلامي عن ذهابك في هذه الطريق؛ فاعلم أنه مهما بعدت المسافة، وأتعبتك الأيام، ستجد هاتين الراحتين في استقبالك وقت العثرات”.

كانت تلك المسافة بين راحتي يده وبين السماء تختزلها ضحكاتنا، ونحن نشعر، بأمان تام، بأن الذي قذفنا عالياً في الهواء لن يتركنا لمصيرنا المجهول، لن يتركنا لنقع على الأرض؛ تلك الكف نفسها سارت معنا، وهي تمسك راحة يدنا بقوة، لتبث فينا الثقة والطمأنينة في أول رحلة للمدرسة، وفي أول مشوار لدكان الجار الطيب، لنشتري سكاكر الحلو الملونة؛ هذه اليد التي تشد على وثيقة تخرجنا من كل مرحلة وعام دراسي، وتشد على يدنا لنكمل رحلة عمرنا في كل مشاريعنا حين نشب لنغرد خارج العش!!

أبي في قصص الأطفال هو سقف العالم، وقدوة الملهمين، بطل الأبطال، وملك الملوك، وأمير كل الحكايات النبيلة.