مجلة البعث الأسبوعية

المواجهة الأمريكية الصينية تهدد الإقليمية الآسيوية

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

يتحول النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين إلى نظام عالمي ثنائي القطب، مع بروز الصين كلاعب جديد لمواجهة الهيمنة الأمريكية. لقد جعلت القوة العظمى الجديدة المنطقة الآسيوية جزءاً مهماً من رقعة الشطرنج الكبرى للشؤون العالمية، وهي تعمل على دمج آسيا وأوروبا من خلال مشاريع مختلفة، لكن عملية الإقليمية هذه ليست مقبولة للولايات المتحدة التي تعمل على احتواء صعود القوة الجديدة؛ وفي خطة الاحتواء هذه، سيتم بالفعل إعاقة عملية الإقليمية الآسيوية.

 

صعود الصين

منذ الثورة الثقافية، كانت الصين تنمو بسرعة كبيرة. ولأكثر من ثلاثة عقود، تغلبت على جميع الأزمات الاقتصادية الكبرى. وكانت أزمة الرهن العقاري، عام 2008، الشرارة التي أشعلت التغيير في النظام العالمي الذي نشهده اليوم، والذي تمكنت الصين من تفاديه، بفضل اقتصادها السياسي الجديد القائم على مزيج من الرأسمالية والشيوعية. بعد أزمة الرهن العقاري، بدأ العالم في التشكيك بأنموذج واشنطن بشأن قيادة السوق، والذي فشل بتقديم حلول لأزمة شرق آسيا وتسبب بأزمة الرهن العقاري، في حين برز أنموذج بكين القائم على تدخل الدولة في الاقتصاد، ليعطي الصين فرصة “إطلاق” أحد أهدافها المهمة: تحويل شنغهاي إلى مركز مالي دولي في عام 2020، وضمان تدويل عملتها الرنمينبي بدلاً من الدولار. حدثت الخطوة الأولى نحو هذا الهدف في عام 2010، عندما أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفي عام 2016 تم قبول الرنمينبي كواحدة من العملات الصعبة في صندوق النقد الدولي. وفيما ينمو الاقتصاد الصيني بسرعة، يتدهور الاقتصاد الأمريكي إلى عجز مالي ضخم استخدمه الجمهوريون للتقرب من الناخبين الأمريكيين والفوز في انتخابات 2016. وما إن استلمت إدارة ترامب زمام الأمور حتى عادت الولايات المتحدة إلى سياستها القائمة على الانعزالية بشعار “أمريكا أولاً”. ولقد تبنت إدارة ترامب الانسحاب من الشرق الأوسط، وتشويه سمعة الناتو، وفرض رسوم جمركية عالية على صادرات الاتحاد الأوروبي وكندا، والانسحاب من الاتفاقيات متعددة الأطراف، فيما كان التنين الصيني يتوسع في جميع الاتجاهات من خلال “مبادرة الحزام والطريق” الطموحة في مناطق أوراسيا وآسيا والمحيط الهادئ والتي تحاول الصين من خلالها ملء الفراغ الذي أحدثه الأمريكيون.

 

جهود الصين تجاه الإقليمية الآسيوية

ليست الإقليمية الآسيوية شيئاً جديداً. إنها أيديولوجية عمرها قرن من الزمان، بدأتها اليابان لأول مرة، وتبعتها دول الآسيان في الستينيات. لكن الصينيين رفضوا فكرة الإقليمية في ذلك الوقت بسبب عدم شعورهم بالثقة تجاه الرأسمالية، حيث كانت النزعة الإقليمية ذات طبيعة وظيفية / ليبرالية، ولم تكن متوافقة مع نظامهم السياسي الذي كان اشتراكياً بطبيعته. لكن، بعد الثورة الثقافية، خضع الااقتصاد الصيني لتغييرات أساسية تكيفت مع الأنظمة الرأسمالية العالمية الأخرى. هذا التغيير جعل الصين اليوم تقود المنطقة الآسيوية. وبالنسبة لأي عملية إقليمية، فإن الخطوة الأولى هي جذب الدول داخل المنطقة اقتصادياً، حيث أن المال يمد بأسباب التواصل، وهو أمر مشابه لما جربته الهند في جنوب آسيا باسم “الازدهار الجماعي”. بدأت الصين عملية الإقليمية الآسيوية من خلال التعاون الاقتصادي، والتوصل لاتفاقيات تجارة حرة ثنائية ومتعددة الأطراف مع دول مختلفة، بدأت مع آسيان، وأنشأت اتفاقية التجارة الحرة بين الآسيان والصين، تليها دول آسيا الوسطى، وأنشأت منظمة شنغهاي للتعاون، وأخيراً تم توقيع الاتفاقية التاريخية المهمة بين اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وهي ثلاث دول، تمتلك 20٪ من الاقتصاد العالمي.

بعد التواصل الاقتصادي من خلال الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، سيكون الاتجاه عموماً هو التواصل سياسياً، ولكن تكامل الثقافة المشتركة شرط أساسي للتكامل السياسي. وعلى سبيل المثال، انتقل الاتحاد الأوروبي من التكامل الاقتصادي إلى التكامل السياسي مباشرة لأن للأوروبيين بالفعل بيئة ثقافية مشتركة؛ ولكن آسيا منطقة شديدة التنوع، سياسياً وثقافياً، ولا تمتلك مثل هذه البيئة الثقافية المشتركة، لذلك تمثلت الخطوة التالية بتحويل آسيا إلى “مجتمع” مع فترة شي جين بينغ. ومنذ عام 2012، بدأت الصين في البحث عن نوع من التعاون الإقليمي لبناء تكامل إقليمي أعمق بالدعوة إلى التعاطف التاريخي والثقافي بين الجيران الآسيويين. وفي نيسان 2013، دعا شي جين بينغ الدول الآسيوية إلى ترسيخ حس مجتمعي من المصير المشترك، وجاءت نتيجة ذلك أخيراً على شكل “مبادرة الحزام والطريق”، والتي تشمل التكامل الاقتصادي والاجتماعي. ويضم مشروع “مبادرة الحزام والطريق” ستة ممرات رئيسية، أربعة منها – الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا، والممر بين الصين وباكستان، والممر بين الصين والهند والصين، والممر بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار – تم إنشاؤها لربط آسيا اقتصاديا ًواجتماعياً وسياسياً.

 

تحد لهيمنة الولايات المتحدة

ليست حرب الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والصين ظاهرة جديدة برزت مع جائحة كورونا، بل بدأت في السنوات الأخيرة من ولاية أوباما. قامت الصين بدمج عملتها كواحدة من العملات الصعبة في صندوق النقد الدولي، وأضافت إلى دبلوماسية القوة الناعمة عنصراُ جديداً هو دبلوماسية القوة الذكية مع “مبادرة الحزام والطريق” التي تتميز بخصائص القوة الصلبة (الاقتصادية والعسكرية) والقوة الناعمة (التأثير الثقافي). وقد شعرت الولايات المتحدة أن الصين في طريقها للسيطرة على آسيا حيث تتمتع بالأفضلية الجغرافية كونها قوة بحرية وقوة برية، وترسخ هذا الخوف في اللحظة التي أصبحت فيها الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، في عام 2010، ليبدأ الانفصال الكبير بين القوتين العظميين مع الحرب التجارية التي بدأت في عام 2016. ومنذ ذلك الحين تحاول كلتاهما كسب دول العالم الثالث لبناء نظام تحالف من شأنه أن يقسم إلى كتلتين منفصلتين.

تدخل القوتان العظميان الآن في صراع عبر مسارح جغرافية متعددة (جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأستراليا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية)، وعبر حوامل مختلفة (التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والتجسس والمؤسسات الدولية والسياسة الصحية والبحرية والقوة الجوية والصواريخ والنزاعات الإقليمية). وفي الخطة الكبرى التي وضعتها لاحتواء التوسع الصيني، حولت الولايات المتحدة اهتمامها نحو “آسيا – المحيط الهادئ”، وهي تخطط لتطويق الصين من جميع الجوانب، لأن تعاون اللاعبين الآسيويين الكبار كالهند واليابان وروسيا أمر بالغ الأهمية، فإن تعاونت هذه الدول مع الولايات المتحدة، ستبقى الإقليمية الآسيوية بمثابة خرافة؛ ففي جنوب آسيا، تدعم الولايات المتحدة الهند بينما تدعم الصين باكستان، وتخضع الدولتان النوويتان لتأثيرات الكتل المختلفة، ولم تعتبر الهند نفسها أبداً جزءاً من أي تحالف، لكن الأنشطة الأخيرة التي قام بها الصينيون، بدءاً من مبادرة الحزام والطريق، وسلسلة اللؤلؤ، والمواجهات الحدودية، دفعت الهند نحو الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن المواجهات الحدودية الأخيرة نشبت لتذكير الهند بالتفوق الصيني وإبقاء الهند أقرب، إلا أن الهند تبتعد عن المنطقة، وتقترب أكثر من الولايات المتحدة لحماية مصالحها الاستراتيجية، وتميل نحو اليابان من أجل المصلحة الاقتصادية. من ناحية أخرى، تستثمر الصين مليارات الدولارات من خلال مبادرة الحزام والطريق في باكستان لجعل البلاد حليفة ملزمة.

يلعب جنوب شرق آسيا دوراً رئيسياً في استراتيجية الصين الكبرى أيضاً. إن وجوده الجغرافي في العالم أمر بالغ الأهمية، حيث يغطي نقاط الاختناق التي تربط المحيط الهندي والمحيط الهادئ. وتحاول الآسيان دائماً الحفاظ على التوازن بين القوتين على الرغم من أن المنطقة تشهد مواجهة مع الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي. إن استثمارات الصين في منطقة الجنوب الشرقي ضخمة، ولا يمكن التغاضي عنها، وبالمقابل تساند الولايات المتحدة دول الآسيان ضد الصين في بحر الصين الجنوبي، فالمنطقة تتجاذبها القوتان العظميان، ولا تستطيع اختيار طرف دون آخر.

لقد بدأ الفصل العالمي الكبير الذي ينبغي اعتباره بمثابة جرس إنذار للدول الآسيوية، إذ تعتمد جميع دول المنطقة تقريباً على الولايات المتحدة والصين لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، وهو مصدر قلق خطير يحتاج إلى معالجة. لقد حان الوقت لكي تتبنى هذه البلدان سياسة حركة عدم الانحياز، وأن تتبع ثلاث استراتيجيات مهمة: البقاء على الحياد والاستفادة من كلا البلدين، أو إقامة علاقات جديدة مع الدول الناشئة مثل دول أمريكا الجنوبية أو الدول الأفريقية، أو تعزيز العلاقات القائمة بالفعل بين بلدان آسيا نفسها، وهذا هو الأهم.