مجلة البعث الأسبوعية

الموت يسجل هدفه الأخير في مسيرة الأسطورة الأرجنتينية ويترك كرة القدم بلا ساحر

“البعث الأسبوعية” ــ مؤيد البش

“مارادونا أفضل من كرة القدم نفسها”، بهذه الكلمات التي نطقها النجم الإيطالي اليساندرو ديل بييرو يمكن تلخيص حياة أسطورة كرة القدم العالمية دييغو مارادونا الذي رحل عن عالمنا منذ أيام تاركاً وراءه إرثاً كروياً يصعب تقليده، وليس الوصول إليه.

“الفتى الذهبي”، أو “الإعجوبة الثامنة”، أو “الظاهرة”، وغيرها الكثير، هي أسماء أطلقت على مارادونا في مشواره الذي دام في الملاعب نحو عقدين من الزمن؛ وكأي مبدع، خط الأسطورة طريق نجاح مميز زينه بروعة كروية وسحر ندر مثيله سابقاً ولاحقاً.

عموماً، سواء أحب المرء كرة القدم، أم لا، فإن من المؤكد أنه سيحب مارادونا باستثنائيته ومتعته وعجرفته وعصبيته وطيبته التي حولته إلى أيقونة لن ينطفئ ذكرها ولو بعد حين.

 

موهبة لا تصدق

بداية الطريق للأسطورة لم تكن مفروشاً بالورود، وقد كشف مارادونا بعضاً من جوانبها في مذكراته التي قال فيها: “في منتصف عام 1969، قال لي صديقي جويو أن نادي أرجنتينوس جونيورز، بالدرجة التاسعة، فتح الباب لاختبارات الناشئين، وسألني إن كنت أريد الذهاب، فأخبرته أن علي أن أسأل والدي أولاً.. كنت أعرف أنني إذ طلبت ذلك من أبي فإنه سيضطر لإيصالي ودفع المال. ركضت فرحاً لمسافة ثلاثة كيلومترات، حتى وصلت إلى بيت صديقي جويو. انقطع نفسي حتى طرقت بابه، وأخبرته أن أبي سمح لي بالسفر لإجراء الاختبار. قطعت مسافة طويلة بين بلدتي، فيوريتو، حتى وصلنا إلى لاس مالفيناس، حيث يتدرب أرجنتينوس جونيورز، وحين وصلنا كانت تمطر بغزارة. أخبرونا أنه لا يمكننا التدرب بسبب حالة الملعب. وقفنا نبكي وسط الأمطار المتهاطلة من الإحباط، وغرقنا في الوحل. قسمونا لفريقين، لعبت بجانب جويو رغم أننا كنا نلعب ضد بعضنا في الحي دوماً، لعبنا بانسجام شديد، كنت أراوغ الجميع، أمرر الكرة من بين أقدامهم، أقوم بحركة المظلة من فوقهم، أمرر بالكعب، وسجلت هدفين. لم يصدق المسؤولون عن النادي أنني في التاسعة من عمري، تقدم المدرب نحوي بعد المباراة، وسألني إن كنت حقاً من مواليد الستينيات، لم يصدقني، وطلب مني أوراق هويتي، ولم يصدق إنني طفل في التاسعة”.

 

تدرج سريع

انطلاقة مارداونا مع أرجنتينيوس، ورحلته معه التي دامت حتى عام 1979، لحقها خطوة كبيرة تمثلت بانضمامه لأقوى أندية الأرجنتين – بوكا جونيورز – ليستطيع كتابة فصل مميز، حيث شارك معه في 40 مباراة، وسجل له 28 هدفاً، ونجح في الفوز معه بلقب الدوري الأرجنتيني، عام 1982، وكأس أندية أبطال الدوري لقارة أمريكا، وكأس الانتركونتيننتال.

هذه الأرقام جعلت أكبر أندية أوروبا تلاحق الفتى الموهوب، وفي مقدمتها برشلونة الذي بقي يفاوضه لأكثر من أربعة سنوات حتى حصل على توقيعه، بعد مونديال “إسبانيا 1982″، بمقابل قياسي، في ذلك الوقت، قدر بخمسة ملايين جنيه إسترليني. لكن ما كان منتظراً من لاعب بقيمة الشاب الأرجنتيني لم يتحقق، حيث قدم مارادونا موسمين جيدين للغاية، على الرغم من تعرضه لإصابة قاسية جداً أبعدته لستة أشهر، ولكن سهراته وسلوكه في بعض المواقف جعلت مسؤولي برشلونة يوافقون على بيعه، مع العلم أنه لعب بقميص البارسا في 36 مباراة، وسجل له 28 هدفاً، وتوج معه بكأس إسبانيا.

 

الموج الأزرق

عدم نجاح مارادونا في برشلونة لم يعقه من استكمال رحلته الأوروبية، بل اتخذ خطوة – وصفت بالتاريخية – حين انضم لصفوف نابولي الإيطالي، الذي كان ينتظر النجم الأرجنتيني على أحر من الجمر، ليرصع تاريخه بلقب محلي وآخر أوروبي.

هذا الانتقال غير حياة مارادونا الذي تحدث عن كيفية توقيعه على عقد وصوله للنجومية، برفقة الفريق السماوي، والأجواء التي لازمته حينها، قائلاً: “كان نابولي مهتماً بي منذ كنت ألعب في الدوري الأرجنتيني، عام 1979. أرسلوا لي قميصاً إلى فندق كنا نعسكر به، مرفقاً برسالة قصيرة تقول: “نحن في انتظارك”، ووجهوا لي الدعوة للسفر إلى هناك، وقضاء 10 أيام. بخلاف برشلونة، لم تكن لدي أي معلومات عن نابولي. كنت أظنه شيئاً إيطالياً عادياً، كالبيتزا، أو المافيا؛ وحتى عندما قدموا لي عرضاً، وأنا في برشلونة، لم أكن أعرف عن نابولي أي شيء! كنت أفكر في شيء واحد فقط، وهو الرحيل عن إسبانيا، والرحيل عن كاتالونيا. نابولي كان الوحيد الذي تقدم لي بعرض لكي انضم لصفوفه! توجد أسباب أخرى بالطبع، فبرشلونة باعني لنابولي لأنه رأى أنه فريق صغير لا يمكن أن يكون منافساً مباشراً له على الصعيد الأوروبي”.

في الخامس من تموز عام 1984، بدأت رحلة مارادونا الفعلية مع نابولي، ومنذ ذلك الحين نصب نفسه ملكاً مطلقاً على مدينة الجنوب الإيطالية التي وقفت لاحقاً معه، أثناء المونديال الذي استضافته إيطاليا عام 1990.

 

تغيير جذري

الوصول لإيطاليا جعل الأسطورة يغير من طريقة حياته، فزاد الاعتناء بجسده ليناسب طريقة الدوري الإيطالي لأن المدافعين في إسبانيا يلجأؤون للعنف دائماً، ولكن الرقابة في إيطاليا تكون أنموذجية بفضل القوة البدنية للمدافعين.

اختلاف الدوريين فهمه مارادونا، مدركاً أن المعركة في إيطاليا لن تكون رياضية فقط، وسط صراع محتدم بين الشمال والجنوب، وبالتالي: العنصريون ضد الفقراء. وبالتالي فإن إمكانية النجاح السريع لم تكن واردة، لذلك حقق فريق الجنوب الإيطالي المركزين الثامن والثالث مرتين، في أول ثلاثة مواسم للظاهرة، قبل أن يتحقق شيء قريب من الإعجاز حين تمكن فريق الجنوب من الفوز بأول لقب خلال 60 عاماً.

لكن، وكعادة أي قصة نجاح ملفتة، تكون الخاتمة غير سعيدة، حيث اضطر مارادونا للرحيل عن الفريق مع الحديث عن علاقته بالمافيا والمخدرات.

 

علاقة مريبة

بدأت رحلة مارادونا الكروية تتأثر منذ مطلع التسعينيات، حين نُشرت صور له مع زعيم إحدى عائلات المافيا في ايطاليا.. هذه العلاقة أكدها الفتى المشاكس، مبيناً أنه قبل بعض الهدايا منه، مثل ساعات وسيارات فارهة، لكنه نفى أي صلة إجرامية بينهما.

هذه الجزئية أدت لخضوع مارادونا لفحوص للمخدرات، ليتم الكشف تعاطيه الكوكايين، ولكن ذلك لم يؤثر على أدائه في الملعب، حتى جاء مونديال 1990، لتتزايد الضغوط والكراهية ضده في إيطاليا بعد تسببه في خروجها من المونديال، خاصة أنها كانت البلد المضيف، لكن وحدها مدينة نابولي دافعت عنه حتى النهاية.

اتهامات جديدة أضيفت لمسيرة مارادونا، وهي السهر في الملاهي الليلية، ما جعله يخرج بتصريح غريب: “هذا لا يسبب ضرراً لأحد، فقد ذهبنا لنرقص في كازينو ليلة مباراة يوفنتوس، وفي يوم المباراة فزنا بخمسة أهداف”!

 

مسيرة ولقب

وإذا كانت قصة مارادونا مع الأندية يحكى عنها الكثير، فإن محطته مع منتخب بلاده كانت مليئة بالبطولات والخيبات، على حد سواء؛ فمارادونا الذي استبعد من قبل المدرب لويس مينوتي، قبيل مونديال عام 1978، بسبب صغر سنه – حينها – عاد وشارك في مونديال إسبانيا عام 1982، دون أن يحقق النجاح المطلوب، ليعود ويفرض نفسه نجماً أوحداً لمونديال المكسيك عام 1986، والتي قاد فيها راقصي التانغو للّقب بفضل تألقه الملفت في كل مباريات البطولة، وخاصة في مباراة ربع النهائي أمام انكلترا، والتي سجل فيها هدفه الشهير بمهارة استثنائية، واتبعه بهدف بيده، ليعرف لاحقاً بهدف “يد الرب”!

التتويج بالمونديال كان نجاحه الأبرز، إلا أن التألق المارادوني استمر في مونديال عام 1990، مع وصول الأرجنتين للنهائي، وخسارتها بصعوبة أمام ألمانيا، ليأتي مونديال أمريكا، عام 1994، الذي يعتبر النقطة السوداء في مسيرة مارادونا، مع استبعاده من البطولة بعد ثبوت تعاطيه المخدرات.

عموماً، مسيرة مارادونا مع منتخب بلاده يمكن تلخيصها بخوضه 90 مباراة، مسجلاً 34 هدفاً، كما حقق مع منتخب الـ “تحت 20 عاماً” كأس العالم، عام 1979.

 

تعجب منطقي

ما حققه مارادونا – والذي يكاد لا يضاهى مع الأندية، أو المنتخب – جعل عشاق الكرة يتعجبون من عدم نيله لجائزة أفضل لاعب، أو ما يسمى بـ “الكرة الذهبية”.. هذا الأمر بكل بساطة يمكن توضيحه عبر معرفة القوانين التي وضعتها صحيفة “فرانس فوتبول” عند تأسيس الجائزة، عام 1956، والتي تنص على منح الجائزة لأفضل لاعب في أوروبا فقط. ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل يجب أن يحصل عليها لاعب أوروبي، وهو السبب نفسه الذي حرم بيليه من الفوز بها قبله أيضاً.

لكن، في عام 1995، قررت “فرانس فوتبول” تحديث نظام الجائزة، وبات يمكن أن يحصل عليها لاعب أجنبي، لكن بشرط أن يكون لاعباً في أوروبا. وكان جورج وييا، مهاجم ميلان السابق، أول من حصل عليها، وهو لا يحمل الجنسية الأوروبية. وفي عام 2007، تم إقرار منح الجائزة لأفضل لاعب في العالم بغض النظر عن المكان الذي يلعب به، أو جنسيته.

وبالتالي، يمكن القول بأن الجائزة لم تتوج بمارادونا، فالجميع يؤكد أن ما قدمه يفوق كل أقرانه في الفترة التي كان يلعب بها في أوروبا.

 

فقير أم غني؟

بعد وفاة مارادونا، بدأ السؤال الكبير: هل يمكن مقارنة مارادونا ومهاراته بنجوم الوقت الراهن؟ وخصوصاً من ناحية القيمة التسويقية، أو الأرباح المالية؟ هذا السؤال لم تستطع وسائل الإعلام الأرجنتينية، أو الأوروبية، الإجابة عليه رقمياً، رغم كون قدرات مارادونا وعبقريته راجحة على كل من لمس الكرة على مدى العصور.

قضية ما يمتلكه مارادونا مالياً كانت لها بعض المؤشرات، منها ما حصل معه أثناء لعبه مع نابولي أواخر الثمانينيات، ودخوله في نزاع مستمر مع الحكومة الإيطالية بسبب الضرائب، مع إلزام السلطات الإيطالية لمارادونا بدفع مبلغ 37 مليون جنيه إسترليني؛

كما أن عدد متابعيه على منصات التواصل الاجتماعي يقارب الأربعين مليوناً، أي أن أرباحه منها تتعدى ملايين الدولارات، فضلاً عن علاقاته المتعددة مع أبرز الشركات في القارة اللاتينية ومسيرته التدريبية التي إن لم تكن ناجحة من حيث الانجازات إلا أنها درّت عليه الكثير من الأموال، وتحديداً في تجربته الخليجية مع “الوصل” الإماراتي.

 

أعجوبة دينية

ولأن حياة مارادونا لم تكن عادية، لابد أن يكون ختام حديثنا عنه مختلفاً، فالنجم الأرجنتيني لم يكتف بنثر سحره الكروي، بل امتد ليلبس عباءة دينية، مع وجود ما يسمى بالكنيسة المارادونية، والتي تأسست في مدينة روزاريو الأرجنتينية عام 1998، بعد أشهر قليلة من اعتزاله اللعب.

فمحبو اللاعب بدؤوا طقوس عبادتهم الجديدة في نهاية تشرين الأول، في ذكرى ميلاد “قائدهم الروحي”. ويعد هذا اليوم أحد العيدين اللذين تحتفل بهما تلك الكنيسة، ويتجمع فيه عشاق مارادونا داخلها، وهم يتغنون باسمه أمام صوره وتماثيله، وهم يؤدون طقوساً دينية مشابهة لطقوس عيد الميلاد المجيد.

العيد الثاني لتلك الكنيسة يوافق حزيران من كل عام، وهو اليوم الذي شهد فوز الأرجنتين على إنكلترا، في ربع نهائي كأس العالم، عام 1986، بهدفي مارادونا.