انهيار تسويات ما بعد الحرب الباردة.. وعودة الانقسامات مع تجدد النزعات القومية
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة وإعداد: علاء العطار
شهدت الأسابيع الأخيرة عودة قاتلة للصراعات الهامدة منذ فترة طويلة في كل من القوقاز وأثيوبيا والصحراء الغربية، وقد حملت هذه الأحداث غير المتصلة ببعضها سمة رئيسية مشتركة: إما أنها وقف لإطلاق النار، أو تسويات سياسية أبرمت في أوائل أو منتصف التسعينيات، ولكنها تسويات تتداعى اليوم.
كانت أوائل التسعينيات آخر فترة اتسمت بتغيرات مهمة واسعة في العالم، ويعود ذلك إلى تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا واستقلال أريتريا وناميبيا. في ذلك الوقت، كانت هناك مخاوف من استمرار هذه الموجة من التفكك الوطني إلى أجل غير مسمى، حيث نشأت دول كثيرة لا ترقى لأن تكون كذلك، وفي حين أن نشوء دول جديدة قد يكون ضرورياً أو حتمياً، فقد تؤدي تجزئة المجتمع الدولي إلى مئات الكيانات الإقليمية المستقلة إلى عالم أكثر خطورة غارق في الفوضى.
لم يحدث هذا السيناريو، فقد تباطأ نشوء دول جديدة وإجراء تعديلات على الحدود الدولية إلى حد كبير على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ولم يعر أحد اهتماماً كبيراً لحركات الاستقلال الوطني كونها عاملاً رئيسياً في الصراع الدولي. وهناك أسباب التي أدت إلى عصر الخمول هذا، ولكن أحد الأسباب الرئيسية هو أن سلسلة من عمليات وقف إطلاق النار والتسويات والخداع الدبلوماسي التي جرت في التسعينيات أدت إلى تجميد كثير من النزاعات الإقليمية القائمة، وعدد من تلك النزاعات المجمدة آخذ الآن في الذوبان؛ فإثيوبيا مثلاً، باتت اليوم على شفا حرب أهلية بعد القتال الذي اندلع بين الحكومة المركزية والسلطات الانفصالية في منطقة تيغراي الشمالية، منذ 4 تشرين الثاني؛ ويمتد الصراع الآن إلى أريتريا المجاورة أيضاً. وقد قُتل المئات، وفرّ عشرات الآلاف، ووردت تقارير عن فظائع واسعة النطاق منذ بدء القتال.
وتضم أثيوبيا قرابة 80 جماعة عرقية، لذا ليس مستغرباً أن يشتمل تاريخها على بعض العنف العرقي، فقد قادت جبهة تحرير شعب تيغراي حرباً على القيادة العسكرية للبلاد خلال السبعينيات والثمانينيات، ثم سيطرت على سياسات البلاد لمعظم الثلاثين عاماً التالية.
في عام 1994، وفي محاولة لتهدئة الصراع العرقي، وضعت الحكومة الأثيوبية بقيادة جبهة تحرير شعب تيغراي دستوراً جديداً أنشأ تسع ولايات فيدرالية على أساس عرقي تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي. وفي حين نجح هذا الهيكل الفيدرالي نسبياً في إخماد العنف لبعض الوقت، كان له أيضاً أثر في تعميق الانقسامات العرقية وإضفاء الطابع الرسمي عليها، فقد “أدى ذلك إلى نمو حركات قومية كثيرة، وعبرت الأحزاب أو الحركات العرقية عن كل مظلمة سياسية واقتصادية” – كما قال الخبير السياسي الأثيوبي يوهانس جيدامو – وهذا الحال يشابه ما جرى في يوغوسلافيا قبل التسعينيات، إذ أرجأت الفيدرالية حل الصراع العرقي بدل القضاء عليه. ومنذ أن تولى رئيس الوزراء أبي أحمد السلطة، في 2018، طفت كثير من تلك المظالم إلى السطح، وشهدت البلاد أكبر عدد من النازحين الجدد في العالم في عام 2018، ويرجع ذلك في الغالب إلى العنف العرقي في جنوب البلاد. والآن، يهدد الصراع بين الحكومة وجبهة تحرير تيغراي، التي همّشت في منطقتها الأصلية على مدار العامين الماضيين، بإلغاء التقدم الأخير نحو السلام المحلي.
في غضون ذلك، أدى وقف إطلاق النار في القوقاز إلى إنهاء ستة أسابيع من القتال بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة ناغورني كاراباخ المتنازع عليها، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ألف شخص وتشريد المزيد. وتعود جذور هذا الصراع إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما طالبت منطقة ناغورني كاراباخ – التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي داخل أذربيجان – بنقلها إلى أرمينيا. كان الجميع آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفيتي، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدأت سلسلة من المذابح نتيجة حرب واسعة النطاق في عام 1992، ما أدى إلى مقتل أكثر من 25 ألف شخص وتشريد حوالي مليون آخرين – معظمهم أذربيجانيون. أدى وقف إطلاق النار بوساطة روسية إلى إنهاء القتال في عام 1994، وتركت ناغورني كاراباخ جيباً شبه مستقل – لكن غير معترف به دولياً – والعديد من المناطق المحيطة بها تقع تحت السيطرة الأرمينية.
وجرى انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار مراراً على مدار الـ 16 عاماً التالية، لكن الهجوم الذي شنته أذربيجان في نهاية أيلول أدى إلى أسوأ فترة قتال منذ الحرب الأصلية، وهي فترة استقطبت قوى إقليمية أخرى، ما تسبب في جولة جديدة من النزوح الجماعي، ويبدو أن ذلك لن يكون – على الأرجح – الفصل الأخير في هذا الصراع الطويل الأمد.
الصحراء الغربية
ثار صراع خامد آخر منذ فترة طويلة في الصحراء الغربية التي يسيطر عليها المغرب، عندما أعلنت جبهة البوليساريو المؤيدة للاستقلال “استئناف الكفاح المسلح” بعد أن شن المغرب هجوماً عسكرياً على منطقة عازلة تسيطر عليها الأمم المتحدة. سيطر المغرب على المنطقة ذات الكثافة السكانية المنخفضة الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لأفريقيا عام 1975، بعد انسحاب إسبانيا، القوة الاستعمارية التي كانت تحتلها سابقاً.
اقتتل الطرفان إلى أن وقعا على اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة في عام 1991. وبموجب شروط وقف إطلاق النار، كان من المفترض إجراء استفتاء لتقرير مصير المنطقة، لكنه لم يحدث أبداً. ولا تزال معظم الأراضي تحت السيطرة المغربية، ولا يزال آلاف اللاجئين في مخيمات في الجزائر بانتظار حل ما.
وتبدو التسويات السياسية الأخرى التي أبرمت في حقبة التسعينيات جدّ هشة اليوم، بما في ذلك اتفاقيات أوسلو لعام 1993، بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، واتفاقية الجمعة الحزينة (أو اتفاقية بلفاست) لعام 1998 التي أنهت النزاع في أيرلندا الشمالية، كما أن تسوية “دولة واحدة.. نظامان” الذي أسس سياسة الحكم الذاتي في هونغ كونغ، بعد نهاية الحكم البريطاني في عام 1997، تبدو هشة جداً هذه الأيام.
تبدو هذه الاتفاقيات، في يومنا هذا، وكأنها بقايا حقبة متفائلة كانت تتلاشى فيها التوترات الإيديولوجية للحرب الباردة، ما جعل التعاون الدولي لحل النزاعات المستعصية سابقاً ممكناً. في كل هذه الحالات، جرى التوصل إلى تسويات منقوصة لتخفيف حدة الصراع، على أمل أن تحل الخلافات الأساسية بمرور الوقت.
لكن لسوء الحظ، ما إن خفّت حدة العنف وتضاءل الاهتمام الدولي وضاعت هذه النزاعات في ثنايا النسيان، مع بقاء الانقسامات الأساسية التي تسببت بنشوبها دون معالجة، حتى عادت تطفو إلى السطح مرة أخرى، في حقبة عودة صعود النزعات القومية.