ثقافةصحيفة البعث

قراءة نقدية في بنية البحر الطويل التاريخية

بعد الانهيارات المفجعة في بنيات الشعر، بحجة أن الأصيل لم يتمكن من استيعاب الحاضر، قال أحدهم في موقف ثقافي: البحر الطويل مرهق ولا يستطيع تحمّل أي حالة شعرية ولاسيما ما نعيشه في الحاضر. ولكن ما أصعب الحاضر وما أضعف مواجهته فلم يبق من الشعر إلا اسمه وبعض ما هو محارب.

ومن لا يعرف قيمة ما كتب وجاء عفو الوجدان بقدرة المواهب على البحر الطويل دون بذل جهد غير الذي منحته الثقافة من تشكيل نوعي لشعر جدير بالبقاء بمرتبة شرف، ولا أحد يمحوه مهما كانت القدرات الشائنة.

سأرجع بكم إلى ما قبل الإسلام وأعرض ما قاله الشنفرى من البحر الطويل:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم، إذ أجشع القوم أعجل

وقوله: إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي/ تطاير منه قادح ومفلل

هل مرّ عبر العصور أجمل من هذين البيتين في العفة والنخوة والشجاعة، وهل أتعب البحر الطويل الشنفرى أم أن المثل العربي (هذا حصرم رأيته في حلب) ينطبق على كثيرين من المنهزمين إلى الضباب المرهق بلا معنى.

وفي العصر عينه لم يختلف بيت طرفة بن العبد من حيث المستوى والجمال عن بيتي الشنفرى بقوله:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه/ فكل قرين بالمقارن مقتدي

ومن آلاف السنين نرى صدق هذا البيت في عصرنا هذا.

ومن منكم لا يعرف عظمة البيت الذي قاله الشاعر الأعمى بشار بن برد:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً/ صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

هذه الأبيات التي سبقتها بهاء خلافات الخنساء وحسان بن ثابت والنابغة الذبياني التي جاءت جميعها على البحر الطويل ولازال جمالها ونغمها لا يجارى، وصولاً إلى عصر مالك بن الريب الذي قال:

تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد/ سوى السيف والرمح الرديني باكيا

ولا أريد أن أمر بعصر المتنبي الذي قال:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم/ بهن فلول من قراع الكتائب

لأنني أكره تناقض المتنبي الذي هجا كافوراً ومدحه بآن واحد وهذا من عيوبه.

وسوف أكتفي لأصل إلى عصرنا الحديث وأستشهد بقول واحد من شعرائه وهو نزار قباني الذي قال في رثاء جمال عبد الناصر:

زمانك بستان وعصرك أخضر/ وذكراك عصفور من القلب ينقر

تضيق قبور الميتين لمن بها/ وفي كل يوم أنت في القلب تكبر

هذا بعض مما كتب من روائع البحر الطويل، ولا يضربنا بمنّة من يكتب النثر أو بعض من يكتبه، فالأحنف بن قيس كان مهماً به وقس بن ساعدة الأيادي والخنساء قالته والجاحظ، فلماذا لا نفهم نظرية التطور على أنها تأتي بأقوى وأهم، وأعود إلى الثعلب الذي قال بعد أن عجز عن قطف العنب:

هذا حصرم رأيته في حلب/ ومني أنا/ بأي مجال إن أردت فإنني/ أنازل من قال القريض وأكتب

كل هذه الشواهد من البحر الطويل والباقي أجمل من يعترض..؟.

محمد خالد الخضر