ثقافةصحيفة البعث

العبقرية والشر لا يجتمعان  

لا يختلف اثنان على أن اختيار الأديب مالك صقور رئيس اتحاد الكتاب العرب لمسرحية “موزارت وساليري” عنواناً لمحاضرته التي ألقاها مؤخراً في فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب لم تكن عفو الخاطر، ولا سيما في هذه الفترة التي يمر بها الاتحاد، وقد بدا من المقدمة التي تلاها أن اختياره لهذا الموضوع لم يكن عن عبث وإنما كان مقصوداً في هذا الوقت، وهذا ما أكد عليه صقور في تصريحه لـ”البعث” عندما بيّن أنه تناول هذا الموضوع ليعالج مسألة علاقة الكتاب مع بعضهم والتي يجب أن تكون علاقة خير وتعاون حقيقي، لا مكائد وحسد، وأن للمسرحية إسقاطات على الحاضر، وهو من خلالها إنما يتحدث عن الموزارتيين والساليريين اليوم، وعن الكتّاب الكبار الذين يمدون أيديهم للآخرين، مشيراً إلى أن الكاتب العبقري والموسيقي الحقيقي يجب أن لا يؤذي، وأن الكتابة مسؤولية، والكاتب يجب أن يكون صاحب رسالة وقضية، وهو مؤمن أن الكاتب يجب أن يكون ضمير الأمة وإن كان يقر بوجود متسللين ومتسلّقين دخلوا إلى اتحاد الكتّاب العرب.

الحسد والغيرة

وأشار صقور إلى أن مسرحية “موزارت وساليري” لبوشكين تعد واحدة من أهم الأعمال التي عالجت موضوع الحسد والغيرة بين الفنانين، وتنتهي بدس السم من قبل ساليري لصديقه موزارت الذي حقق شهرة كبيرة لم يتحملها ساليري.. من هنا كانت هذه المسرحية واحدة من الأعمال الإشكالية كونها تعرضت لأهم موسيقيين في عصريهما، خاصة وأن بعض المصادر تذكر أن ساليري اعترف وهو يحتضر على فراش الموت بالجريمة الشنعاء التي اقترفها وهي تسميم موزارت العظيم، وهو اتهام ظهر في فيينا بعد سنوات طويلة من وفاة موزارت، وساهم عمل بوشكين “موزارت وساليري” في تحويله إلى حقيقة تاريخية، وبغض النظر عن صحة الواقعة التاريخية هذه أو عدم صحتها، وقد نفتها معظم المصادر، فقد دخلت تراجيديا بوشكين “موزارت وساليري” كما أشار صقور تاريخ الأدب المسرحي والاجتماعي والبسكولوجي العالمي من أوسع أبوابه، وهي التي منذ صدورها عام 1830 وحتى اليوم مازالت محط دراسات نقدية، ومازال المسرحيون يقومون بتمثيلها على الخشبة، وقد حوّلها بيترشافر إلى دراما (أماديوس) والتي قام المخرج التشيكي ميلوش فورمان بتحويلها إلى فيلم شهير حصد ثماني جوائز أوسكار، ورأى صقور أن جوهر مأساة بوشكين “موزارت وساليري” هو الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الموهبة وعدمها، بين الأريحية والأنانية، بين الأخلاق الرفيعة والأخلاق المنحطة، مبيناً أن دوستويفسكي توغل إلى أعماق النفس البشرية في كشفه عن ذوات أبطاله ونماذجه، إلا أن بوشكين قد سبقه في هذه التراجيديا في كشف أعماق نموذج بشري فضح من خلاله الحسد الكامن في نفس ساليري الذي قاد إلى الجريمة، وفي الوقت نفسه غنّى للإنسان المبدع الذي هو موزارت. وقد رأى صقور أن موضوع الحسد في هذه التراجيديا له خصوصية متميزة، وخصوصيته تنبع من العمق الذي تناوله فيه بوشكين كشاعر عظيم أولاً، وثانياً تلك الخصوصية التي تتمتع بها شخصيتا البطلين اللذين جعل منهما بوشكين رمزين في الأدب والفن،حيث تنكشف للقارئ من خلال المسرحية شخصية كل من موزارت وساليري من خلال حماسة موزارت وأريحيته بالتعامل مع عامة الشعب وتواضعه مع البائسين وهو ما يتكرر كثيراً وبأشكال مختلفة في المشهد الثقافي العام حين يحاول فنان مشهور أو كاتب كبير أو شاعر معروف أن يَلغي الآخر بحجج كثيرة، في حين أن ساليري في المسرحية يلخص المشهد العام للأنانية في عدم قبوله الإنسان البسيط الفقير المتمثل فيها بالعازف الضرير الذي يتسول اللقمة في الشارع وفي الحانة والذي يكون معه موزارت نبيلاً بلا حدود.

الموزارتيون والساليريون

أوضح صقور أن بوشكين سرد سيرة كل من موزارت وساليري، فساليري حرفي أكثر منه موهوباً، فهو احترف الموسيقا وربما أتقن العزف، ولكن كانت تنقصه موهبة التأليف المبدع الخلاق الذي تفوق فيه موزارت على كل أقرانه.. من هنا بيَّن بوشكين أن ساليري كان أستاذ ثلاثة مشاهير في عالم الموسيقا هم بيتهوفن وشوبرت وليست، لكن بوشكين يعرف أيضاً أن الأستاذ المدرّس تنقصه موهبة العباقرة مهما أتقن تلقين دروسه، وقد اعترف ساليري في المسرحية بعقدة النقص والدونية تجاه صديقه موزارت، ولهذا يحتج على السماء كيف وهبت موزارت اللامبالي ولم تهبه هو الجاد، مشيراً صقور إلى أن بوشكين الشاعر العبقري الذي عالج هذه القضية دخل إلى نفسية ساليري وأظهر ما فيها من نفاق، وبقي هذا النفاق حتى اللحظة الأخيرة ولم يعتمد على الحدث الخارجي في إيصال القارئ والمُشاهد إلى اللحظة التراجيدية الفظيعة التي سكب ساليري فيها السم في كأس موزارت، وهذا ما جعل صقور يُطلق وبثقة مصطلح (الموزارتيون والساليريون) مع تأكيده على أنه ليس كل الموزارتيين عباقرة مثل موزارت، وليس كل الساليريين قتلة مجرمين بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن الساليريين برأيه إن لم يحملوا السم في جيوبهم فإنهم يحملونه في سلوكهم وتصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم.. من هنا فان بوشكين وهو التوأم الحقيقي لموزارت في الفن الحقيقي كان يكتب مرثيته وهو يعرف أن الساليريين يتربصون به في كل مكان، وقد انتهى إلى النهاية التراجيدية ذاتها ولكن من غير سم، مؤكداً صقور أن العبقرية والشر لا يجتمعان وهو لغز هذا العمل الإبداعي، فساليري ليس عبقرياً وارتكب الشر، أما موزارت العبقري فلا يمكن أن يَقتل أو يكون مستعداً أو مؤهلاً للقتل، منوهاً إلى أن كثيرين سيوافقون على ذلك، والبعض لن يوافق، وربما العكس لأن بعضهم برأيه يعتقد أن الذي اخترع القنبلة الذرية والبارود والديناميت عباقرة، إلا أن مقصد بوشكين يتجه باتجاه آخر، فالذرّة يمكن أن توظف لخدمة الإنسانية كما الكهرباء والمكتشفات الطبية، فالعبقري هو من يضع عبقريته في خدمة الإنسانية وتحريرها من ربقة الاستبداد والظلم والفقر والقهر وكل أشكال اضطهاد الإنسان، والعبقري لا يَقتل ولا يحرق ولا يدمّر ولا يغدر، ومن هنا فإن العبقرية والشر لا يجتمعان.

واختتم صقور بما اختتم به بوشكين حين قال: لن أموت أبداً ما دامت روحي في قيثارتي الحبيبة وستنبعثُ رُفاتي من تحت الرماد.. سأظلُّ مُمجّداً في هذا العالم ما دام عليها مغنٍّ واحد، بلى.. العبقرية والشر لا يجتمعان.

أمينة عباس