الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 64

عبد الكريم النّاعم

دخل صديق عمره فوجده يقلّب قصاصات ورق بين يديه، فسأله: “ما هذه النّتف التي تعكف عليها”؟.

قال: “كنتُ وأنا أقرأ الصحف، أو الكتب أتوقّف عند بعض الأفكار، فإمّا أن أقتطعها، أو أدوّنها، ولديّ ركام أتهيّب أن أنظر فيه، لأنّ هذا يستغرق وقتاً، وكم أرجأت ذلك، لأنّ التعامل معه يحتاج لحالة نفسيّة تواكبه، ولحالة جسديّة تستطيعه..”.

قاطعه: “أوصلني إلى هذه النّتفة المقصوصة من مجلّة، الله يعلم كم عمرها”.

قال: “هذه القصاصة يا صديق العمر تتكلّم عن الشاعر السوفييتي ألكساندر تفاردوفسكي، وقد جاء فيها: على الرغم أنه ارتحل من الريف إلى موسكو حين بات شابّاً يافعاً، حيث قضى حياته في المدن الكبيرة، فقد كان يتصرّف أحياناً كفلاّح تُرعبه المدينة، ففي كثير من الأوقات كان يتردّد (يجازف) ويعبر الشارع حتى لو لم يكن الشارع مزدحماً بالسيارات، وكان يفضّل المقاهي والمطاعم الشعبيّة الصغيرة على المطاعم الكبيرة، ويتحدّث عنه صاحبه كوندراتوفيتش فيقول إنّ الشاعر كان يحبّ الغناء في الحفلات،-وهي عادة من عادات الفلاّحين- أمّا اليوم فإنّ مثل هذا التصرّف مفقود بين المثقّفين، قال لي مرّة: “حين ينتقل المرء من شقّة إلى أخرى يغمره الحزن، كأنّ جزء من حياته قد انطوى وانتهى، فالمرء لا يعرف ماذا يخبّىء له المستقبل”، وقال مرّة بسخرية: “يحلم النّاس بحياة الريف القديمة ولكنّهم يفضّلون غرفهم الدافئة في المدينة”..

قاطعه: “ألا تعرف لماذا تحتفظ بهذه القصاصة”؟!.

فال: “ربّما أعرف جانباً، وأجهل جوانب”.

تابع: “إنّ فيها شيئاً من أعماقك، ولا أقول كلّها، بل بعضها، نحن عادة ياصديقي لا ندوّن، ولا نحفظ بقصد إلاّ ما نجد فيه شيئاً من حالنا..”

****

في الخزَف شيء من روح الخزّاف، داهمتْه هذه الفكرة، وتوقّف عندها، يبحث عن ذلك المعنى البسيط البالغ العمق، والمعبّر تعبيراً شاعريّاً، وقد مرّ هذا المعنى في العديد من قصائد الشعر العربي، أخذتْه سِنة وهو غارق في تفكيره، في الحلم شاهد شيخاً يحفر الأرض، وينخل التراب، وبعد تهيئته يصبّ عليه الماء، ويبدأ بتحويله إلى طينة صالحة أن يَعمل فيها الخزّاف، ورأى بشكل خاطف كيف أنّ تلك الطينة أخذها خزّافها وبدأ يدير دولاب آلته ليصنع منها شكلاً جميلاً، وكان يلامسها بلطفِ من يُداعب طفلاً من أطفاله، وحين أكمل رسم الشكل، وضعها جانباً، وبشكل خاطف أيضاً رأى من يأخذ تلك الطينة، فيسوّيها بالشيّء لكي تتماسك أكثر، ورأى من يبدأ بتلوينها بأشكال مُتقنة جميلة تُبهج النفس، في حلم السنة تلك رأى مَن يقول له: “هذه الرحلة من التراب إلى هذا الشكل الجميل الشاعريّ، هي روح الخزف، بل هي كلّ روح قائمة في هذا العالم المليء بالجمال والزرقة والوساعة”…

****

لم يكن ممّن تفوته سهرة يتجلّى فيها الطرب والنّغم، وكان طروباً لدرجة أنّ ما يظهر عليه من آثار الانفعالات يلفت الأنظار دون تعمّد، فقد كان صادقاً في مشاعره، وفيما يبدو عليه، فلا يتكلّفه بل تلك سمة وجوديّة فيه، لم يعتذر عن دعوة يستطيع أن يلبّيها، حتى ولو جاءته من أماكن قصيّة، وكان يشعر بأنس ذلك، ويترشّفه بكلّ حواسه الظاهرة والباطنة، كلّ الأشياء الجميلة تفتنه، من خُضرة الجبال وزُرقة البحر حتى صمت البوادي المديد كاتّساعها، يُسلم نفسه لذلك الغرق الجميل حريصاً على ألاّ يجرح في سلوكه أحداً، وإذا صادف أنْ بدر منه، في حالة ردّ، ما قد يبدو خشناً بعض الشيء، أرّقه ذلك، وأفسد عليه هدوء نفسه، ورغم هذا الانغماس فقد كان يعاني من قلق في الأعماق، مصدره أنّه يتوق إلى معرفة حقيقة ليس بعدها حقيقة في هذا الكون، هذا الذي كان يصهل كحصان عربي أصيل، تراكمت السنوات على كتفيه، وأصابته أمراض العمر، وكانت له تجارب قليلة في الكتابة، حين وفاته وُجد تحت رأسه ورقة فيها الجملة الآتية: “كنتُ في صباي أستغرب كيف تخلّى بعض الشيوخ عمّا كانوا عليه في شبابهم، وها أنا حين طُويت الأشرعة، أو كادت، أجد نفسي واحداً في الرّتل، على أبواب المخابز المُغلَقة…”.

aaalnaem@gmail.com