مجلة البعث الأسبوعية

توريث “الكار” في ثقافة الطفل كل فن نبيل وأدب رفيع يورّث

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

 

توريث الأمل

في نهاية فيلم العبقري مصطفى العقاد “أسد الصحراء”، نقف ملياً نتأمل الطفل الصغير الذي رافقه كأيقونة الجيل المرجو لبناء ونهضة الأمة، وكيف يتفلت راكضاً من بين ذراعي والدته ليلتقط نظارة الشيخ الشهيد، ويمسكها براحتيه، ثم يعود إلى حضن أمه.. النظارة ورمزيتها وروح النضال والعلم والتحدي يرثها الطفل حين يحتضنها كتركة غالية من الشيخ والمعلم الأول والقائد عمر المختار.

كل حب يورّث، وكل أمل مبني على حلم نبيل يورّث، وكل فن نبيل وأدب رفيع يورّث.

كان النداء، الذي طالما صدحت أرجاء صرخاته في كتاباتنا وندواتنا ولقاءاتنا الإعلامية، أن يكون لكل مبدع من الرعيل الأول، المؤسس في مجال ثقافة الطفل، منبر وندوة مفتوحة، وورشة عمل دائمة محددة المكان وأزمنة اللقاء، مع المتابعين والتلاميذ والمحبين للجنس الذي يبدعه، لتستمر دائرة العطاء ويتصل جيل وافد بجيل راحل، ويتم توريث أصول الكار كما يجب وكما يليق بكل فن وأدب رفيع في هذا الوطن الجميل.

رحل الفنان أمجد الغازي، وكان وريثاً نبيلاً لخطوط الفنان ممتاز البحرة، الذي رحل قبله، تاركاً لنا الإرث الذي ما فتئنا نتغنى به؛ ولكن رثاء الأغاني لا يكفي لبناء الخطة الوطنية الجامعة والمرجوة! نحتاج إلى فعل حقيقي جامع، وإلى إرادة في استخلاص العلم والفن من صدور من بقي من هذا الرعيل كعسل النحل، ونسكبه في كراسات وكتيبات ومراجع علمية تنقح وتضبط وتكون مرجعاً لكل محب:

كيف نرسم للأطفال؟

كيف نكتب للأطفال؟

كيف نعلم الأطفال؟

كيف نتعلم من الأطفال؟

كيف نصنع رسوماً متحركة للأطفال؟

ويستطيع كل محب لثقافة الطفل أن يعدد لكم عشرات المحاور، والنقاط العملية الفاعلة، لبناء ثقافة فعلية للأطفال.

يدهشني أن كل رسامي قصص الأطفال في بلدان العالم لديهم أكثر من كراس ومطبوعة تحمل روح عملهم وأسلوبهم في تعليم المريدين طرق العمل بأساليبهم الخاصة، التي تلقوها عن “شيخ كار”، أو أكاديمية ما، أو معهد للفنون بعينه؛ ونحن لا زلنا نحاول اختراع العجلة من جديد.

الشباب المحبون لفن الطفل ولوحاته متروكون لتجاربهم الفردية، ولإرادتهم ولمحاولاتهم الذاتية في الحصول على مراجع متشظية المشارب.. لا ناظم لها!!

 

تطعيم الخشب بالأحلام

في الأشغال اليدوية كانت طقوس توريث الحرفة تتم بشكل جليل ومهيب من الصوفية والروحانية العالية، فترى طفلاً غض العود، لا يكاد يقوى على حمل المطرقة ولا إزميلها، يضرب نقرات متواترة ليصنع موسيقا تخلب لب والديه، وهو ينقش على خشب الحور، والزان، والشوح، والزيتون، آيات جليلات، ويُدمشقُ الصدف، وينقش النخل من تدمر، ويجري لون الماء من الفرات في لوحته الخشبية موزاييكاً يبهر. كان جل ما يريده ابتسامة رضا من معلمه الكبير، الواقف على ناصية الحلم، أن يعطيه يوماً شهادة الحرفة وإتقان الصنعة. نحتاج لإعادة هذا الشغف طقوساً ،ومواسم واحتفالات، مسابقات للقصة المصورة وفن الرسوم المتحركة وأدب كتابة الحكاية، وعدد ما شئت! فأساطيرنا السورية ما زالت رهينة صدور الجدات، بحاجة لمن ينفض عنها غبار الزمن، ويصوغها بلغة هذا العصر.

 

“شيخ الكار” التنين

”نحن لا نضع البيئة الطبيعية في مرتبة أدنى من شخصيات العمل، هذا لأننا نشعر بأن العالم جميل. العلاقات الإنسانية ليست هي الشيء الوحيد الذي يثير الاهتمام، ونحن نعتقد أن الطقس والوقت وأشعة الضوء والنباتات والمياه والرياح، وما يشكل المناظر الطبيعية، كلها، جميلة، وهذا هو السبب في أننا نبذل الجهود لدمجها قدر الإمكان في عملنا“.

من خلال هذه الكلمات الجليلة للمعلم هياو ميازاكي، هذه دعوة لرؤية جاري توتورو، لتتكحل بأعينكم وهي تشاهد جمال الريف الياباني، وكل حكاياته وأساطيره المخفية، حيث حديث الجدات وكبار السن يتحول، أمامنا، إلى فعل حركي نابض بالمغامرة والبراءة والضحكات، وسط ألوان قلّ نظيرها من البراعة والإتقان، أشبه ما يمكن وصفها بأن ميازاكي العبقري جلب مارد السحر الموجود في طبيعة اليابان الريفية، وألبسه عباءة الأساطير الخاصة بهم، ثم سجنها في قارورة زجاجة مستطيلة تسمى شاشة العرض السينمائي.

 

سنيسل ورباح

في حكاية “العنز العنوزية”، وولديها الصغيرين: سنيسل ورباح، والتي تتشابه روحها في كل القصص التي تتلوها الجدات عبر الريف السوري الموغل في الأصالة، تجد عرقاً من عروق الذهب الخام متصلاً هناك في الجغرافية السورية، وحيثما ضربت رفش الخيال تخرج لك الحكاية كما هي، وكأن ليليت السورية الأولى، حين نزلت من جنة عدن، كانت تصوغ دعواتها حكاية فريدة وحيدة، تورثها بناتها، وهي تسرح شعرهن بمشط العاج.أكانت ليليت رمز غواية؟ أم رمز جمال؟ أم رمز حب؟ يكفي أنها شغلت خيال كتاب الرواية والأساطير ردحاً من الزمن، فكتبوا عنها، وورثوا حكايتها أجيالهم اللاحقة.

كالعادة دائماً، من خلال كلامنا في هذا المنبر، نقول بأن الخامات السورية المؤهلة للقيام بهذا الفعل الحضاري كثيرة وعديدة، تحتاج من “أولي الأمر” رعاية، وفتح منابر تليق بها.

 

الرجل المستحيل

ودعت مصر منذ أيام الراحل الكبير، د نبيل فاروق، الكاتب الذي أثرى ذائقة الشباب العربي اليافع لأجيال عدة بقصص وروايات الخيال العلمي والبوليسي والمغامرات، فكانت له سلاسل من الكتب الغنية التي تلقفتها أجيال وأجيال على مدى سنين حياته الإبداعية، من أشهرها “ملف المستقبل” و”رجل المستحيل” و”كوكتيل 2000″.

الداعي لطرح اسم وسيرة الراحل في مقالنا هنا أن د نبيل توفيق كان عراب وراعي خطوات المبدع الآخر، في هذا المجال، الدكتور أحمد خالد توفيق، أول كاتب عربي اختص في روايات الرعب، وسار على خطوات معلمه في مجال الرواية البوليسية، والخيال العلمي وأدب الشباب.

حين يؤمن المبدع بإمكانات الشباب الصاعد، ستكون لنا دائرة مكتملة من العطاء لا تنقطع، خصوصاً إذا كان هناك مناخ ملائم، كما في قصة العلاقة بين د. نبيل فاروق ود. أحمد خالد توفيق، حيث خلقت تزكية الأول لرواية “أسطورة مصاص الدماء” – التجربة الأولى للأخير – حالة من التماهي والتكامل والتنافس النبيل على الاستحواذ على ذائقة القراء. وصدقت توقعات “رجل المستحيل” في “العراب”، حيث نجحت سلسلة روايات “ما وراء الطبيعة”، وأعماله الأخرى، ونجح معه اسم المؤسسة التي ظلت الأكثر مبيعاً في الشرق الأوسط، بفضل أعمال كل من فاروق وتوفيق، ليتنافسا على حب القراء، ومحبي روايات الأدب البوليسي والخيال العلمي.

 

رعيل جديد ووريث مجتهد

كما لكل زمن رجاله ومبدعوه، فإن هذه الأيام تتمخض في كل يوم عن تجربة وموهبة وحلم جديد يستحق الرعاية والعناية الحانية، وواجب تأهيل مراكزنا الثقافية ومعاهدنا العامة والخاصة، وكل المنابر المتاحة، لتكون مراكز لقاء وتفاعل بين المواهب الصاعدة وبين متقني “الكار”، ليتم توريث الحلم على أصوله، كما يتم توريث نحت الغيم في كبد السماء الصافية في الضحى، وترصيع العباءة الداكنة لليل بالنجوم.