مجلة البعث الأسبوعية

من الأسطورة إلى الواقع.. الآثاريون الصهاينة يستخدمون التوراة لإعادة كتابة التاريخ

“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: سمر سامي السمارة

تاريخ فلسطين، تراث من التقاليد العريقة، والثقافة، والدين، والسياسة، والتجارة، وفن العمارة التي لا مثيل لها، كلها تتبدد ليتمكن الصهاينة من الإدعاء بأنهم ورثة يهوه والملك داود.

هناك في لندن مكتبة فريدة من نوعها، وهي واحدة من الجواهر العديدة الموجودة في المدينة. تتخصص مكتبة “غارن دايس” في الإصدارات الأولى، والكتب النادرة، والإصدارات الرائعة للأعمال الكاملة لشكسبير، وديكنز، وآخرين لا يُحصى لهم عدد، كما تُعرض فيها نسخ أثرية ضخمة مصورة من العهد القديم، مزخرفة برسوم توضيحية جميلة تضفي الحياة على الشخصيات والقصص التوراتية.

هناك، يمكن الجلوس وتصفح نسخة قديمة مصورة من العهد القديم تتضمن رسوماً توضيحية رائعة، والقاء نظرة على صور لرجال ونساء عظماء، واختبار اللحظات العظيمة التي يصفها العهد القديم: الملاك الذي منع ابراهيم من تقديم أبنه كذبيحة، وموسى عندما نزل من جبل سيناء، وداود الصغير وهو يقتل غوليات العملاق، وأكثر من ذلك بكثير. لدرجة يمكن أن يظهروا جميعهم وكأنهم على قيد الحياة، أو بعثت فيهم الحياة أمام عينيك.

كان الهدف من هذه الترجمة الجميلة خلق الانطباع بأن القصص التي يرويها العهد القديم صحيحة تاريحياً، حيث يوجهون القراء – وحتى أولئك الذين لا يقرؤون ولكن يسمعون القصص وينظرون إلى الرسوم التوضيحية – للاعتقاد بأن هؤلاء كانوا أشخاصاً حقيقيين وأن الأحداث حقيقية.

من السهل الإشارة إلى مدينة قديمة في فلسطين، مثل بيت لحم، أو القدس، أو زاوية من الصحراء بالقرب من بئر السبع، والإدعاء بوقوع حدث توراتي ما هناك. هذه القراءة الحرفية للكتاب المقدس، ولا سيما العهد القديم، أعطت ولا تزال تمنح الصهيونية زخماً هائلاً،

إذ يعتمد الصهاينة على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين تم تضليلهم للاعتقاد بأن هناك حقيقة تاريخية في العهد القديم، والذين يعتقدون أن إسرائيل اليوم هي الوريث الحقيقي والشرعي لإسرائيل التوراتية، والذين يسمحون للصهاينة بالإدعاء أن العهد االقديم كتاب تاريخهم الفعلي.

 

الأساطير الدينية والتاريخ

استبدل الإغريق والاسكندينافيون أساطيرهم الأصلية القديمة بالمسيحية، محتفظين بأساطيرهم كجزء من تاريخهم الثقافي. وفي الهند، لا تزال الأساطير القديمة متقدة، ولا تزال الآلهة القديمة تُعبد في معابد في كافة أنحاء البلاد، ومع ذلك لا يتم الخلط بينها وبين التاريخ الحقيقي للهند. ولا يتم الخلط بين الأله فيشنو، أو أشوكا، أو بوذا، لأنه لكل منهم مكانة مرموقة داخل الثقافة الهندية الغنية.

كما لا يعتبر اليونانيون، ولا سكان الشمال، ولا حتى أولئك الذين يمارسون معتقدات مختلفة في الهند، أساطيرهم بمثابة تاريخ. ولن تجد علماء الآثار اليونانيين يحفرون للعثور على منزل زيوس؛ وليس هناك أي علامات تشير إلى أن شعوب الشمال تبحث عن المدينة القديمة التي أقام فيها كبير الآلهة في الميثولوجيا النوردية، أودين، وابنه ثور؛ وحتى في الهند التي تشكل الآلهة القديمة جزءاً مهماً من الحياة فيها، لا مؤشرات على أن علماء الآثار سيقومون بحفر مدينة شيفا.

يرجع ذلك إلى أن الفصل بين الأسطورة والدين والتاريخ واضح إلا في حالة الصهيونية، إذ يتمسك الصهاينة بدعاواهم بأن العهد القديم هو التاريخ، فقد دأب الآثاريون الذين يعملون نيابة عن الصهاينة على حفر فلسطين منذ قرنين من الزمن، وعلى تجاهل – أو حتى تدمير – القطع الأثرية القيمة التي لا تخدم غرضهم، لأن الأجندة السياسية هي الدافع الرئيسي لعلماء الآثار الصهاينة وليس الفضول العلمي، لذا يتجاهلون كنوز التاريخ والآثار الموجودة في فلسطين ويبحثون عن دليل على نظرياتهم الخاصة.

 

تدمير المعالم الأثرية

وغالباً ما تأتي الحاجة إلى التحقق من صحة الادعاءات الصهيونية التي تربط إسرائيل الحالية بالعبرانيين القدماء والأساطير المجيدة – كما وردت في أجزاء من العهد القديم – على حساب المواقع والمعالم التاريخية الهامة. في الواقع، من المألوف رؤية مواقع تاريخية لا تقدر بثمن دمرتها المؤسسات الصهيونية.

وتعتبر مقبرة مأمن الله – وهي مقبرة إسلامية قديمة وموقع مقدّس في وسط القدس يُعتقد أن تاريخه يعود إلى القرن السابع الميلادي – أحد الأمثلة على ذلك، إذ يرقد في ثراها العديد من الشخصيات الدينية من العقيدة الصوفية، وآلاف المسؤولين والعلماء والأعيان وعائلات القدس على مدار الـ 1000 عام الماضية.

وقيل إن صحابة النبي محمد دفنوا هناك. ولكن منذ الاحتلال الصهيوني للقدس الغربية، أصبحت المقبرة بحالة مزرية، خاصة مع تدمير وتدنيس شواهد القبور القديمة؛ وخلال العقد الماضي، هُدم جزء كبير من المقبرة وتم تدنيس الرفات البشرية حتى يتمكن “مركز شمعون فيزنتال” من بناء منشأة تسمى، بلا خجل، “متحف التسامح”.

منذ عام 2010، يعمل “مركز الحقوق الدستورية” و”حملة الحفاظ على مقبرة مأمن الله” على وقف بناء المنشأة الجديدة، وصيانة ما تبقى من الموقع القديم. ولتحقيق هذه الغاية، قُدمت عشرات الالتماسات إلى هيئات الأمم المتحدة المختلفة، بما في ذلك اليونسكو، لحماية الموقع المقدس.

فقد أسفر بناء “متحف التسامح” – كما تمت تسميته – عن هدم مئات القبور ونبش رفات الموتى والتخلص منها، في مقبرة تميزت بأنها واحدة من أبرز المقابر الإسلامية في العالم، حيث دُفن فيها سبعون ألفاً من المحاربين من جيوش صلاح الدين الأيوبي، لكن هذه القبور لم تعد موجودة الآن.

مقبرة باب الرحمة هي الأخرى إحدى أشهر المقابر الإسلامية في القدس، وتقع تحديداً عند السور الشرقي للمسجد الأقصى حيث تمتد من باب الأسباط وحتى نهاية سور المسجد الأقصى بالقرب من القصور الأموية جنوباً. إلا أن الحكومة الإسرائيلية بصدد مصادرة أجزاء من المقبرة لتنفيذ مشروع استيطاني يتضمن شق “مسارات الحدائق التوراتية”، ومحو المواقع التاريخية مرة أخرى، من أجل بناء نصب تذكارية لإحياء ذكرى تاريخ لم يكن أبداً.

وهناك مثال كلاسيكي آخر على تدمير التاريخ الحقيقي من أجل الأساطير، وهو افتتاح ما يسمى “محطة معمودية الهيكل” على الأرض التاريخية للقصور الأموية في البلدة القديمة في القدس. والمعبد المشار إليه هو المعبد اليهودي، والقصور الأموية التي سيتم البناء عليها تعود بتاريخ بنائها إلى ما يقرب من 1400 عام، حيث تم بناؤها في مرحلة مبكرة من العصر الإسلامي، وكانت تستخدم لإيواء الخلفاء المسلمين والمؤسسات التي أدارت شؤون القدس والمسجد الأقصى.

 

حالة يرثى لها

لم تكتف السلطات الصهيونية بتدمير المواقع التاريخية الثمينة بحثاً عن المواقع الأسطورية، بل سمحت أيضاً بتداعي حالة المواقع التاريخية التي لا تقدر بثمن. ولا بد لنا من الإشارة، هنا، إلى أن عدداً لا يحصى من هذه المواقع في جميع أنحاء فلسطين، مثل مسجد ضاهر العمر في طبريا – الزعيم الفلسطيني الذي حكم معظم الأراضي الفلسطينية وشكل تاريخها طوال القرن الثامن عشر – يقف الآن بمفرده في حالة خراب، ليكون الشاهد الوحيد على الماضي العربي المجيد للمدينة. لم تمّح ذكراه فحسب، بل إن الآثار التي تحمل اسمه، ولا تزال موجودة حتى الآن، طالها الخراب.

لقد تحولت أساطير العهد القديم إلى تاريخ، من خلال تحويل القصص والشخصيات الأسطورية إلى أحداث وشخصيات تاريخية حقيقية. في الوقت نفسه، ضاع التاريخ الحقيقي لفلسطين، ضاع تماماً حتى يتمكن الصهاينة من الإدعاء بأنهم الورثة الحقيقيون ليهوذا والملك داود.

ما من ضير في الاستمتاع بالرسوم الإيضاحية الرائعة التي تزين العهد القديم، والتي يجد المرء أمثالها في مكتبة “غارن دايس”. في الواقع، زيارة هذه المكتبة تجعلك تستمتع بتلك النسخ الرائعة لقصص العهد القديم. ومع ذلك، لا بد من أن نكون حريصين على عدم الخلط بين تلك القصص والرسوم الايضاحية وبين التاريخ الفعلي لفلسطين.