17% فقط للإنفاق الاستثماري وحصة الزراعة والصناعة لا تتجاوز 7.2%!! البون شاسع جداً بين وعود البيان الوزاري واعتمادات الموازنة ولا رؤية استراتيجية تترجمها الخطط الخمسية
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
استنتجنا بسهولة، بعد مناقشات مستفيضة في مجلس الشعب، أن وزارة المالية أنجزت موازنة 2021 بسرعة، دون أي ترجمة فعلية للتوجهات المعلنة للحكومة بدعم القطاعات الإنتاجية وتخفيض المستوردات. بل أن وزارة المالية لم تقم بتعديل اعتمادات الموازنة وتوزيع أبوابها بعد رفع أسعار المحروقات وأسعار الخبز، أي بعد تخفيض حجم الدعم المرصد في موازنة 2021.
ومن الطبيعي ألا تهتم وزارة المالية بإنجاز موازنة تدعم الإنتاج والاستثمار في ظل غياب الخطط الخمسية، فلو كانت هذه الخطط موجودة لكانت الوزارة ملزمة برصد الاعتمادات لمشاريعها سنة بعد سنة.
وأمام غياب أي رؤية أو خطط تركز على قطاعي الزراعة والإنتاج ومشاريع إحلال المستوردات، أنجزت وزارة المالية موازنة سريعة وسهلة من أبرز سماتها أن لا علاقة لبنودها ببنود البيان الوزاري للحكومة. فلم هذا البون الشاسع جدا بين الموازنة العامة للدولة والبيان الوزاري؟!
بماذا وعد البيان الوزاري؟
أكد البيان الوزاري أن من أولويات الحكومة تحسين الوضع المعيشي من خلال بحث وسائل زيادة الدخول، ومنها أجور وحوافز العاملين في الدولة، وفق الإمكانات المتاحة، والحفاظ على القوة الشرائية لليرة، وترشيد الاستيراد، وتشجيع الإنتاج الوطني، وتعزيز دور مؤسسات التدخل الإيجابي، وتخفيف العبء على ذوي الدخل المحدود، وتوفير المشتقات النفطية والغاز والكهرباء والدواء.
وجاء في البيان أن الحكومة ملتزمة بتنويع القاعدة الإنتاجية، وزيادة الإنتاج، والحد – ما أمكن – من الارتباط بالأسواق الخارجية، وتوفير احتياجات السوق المحلية، وتخفيض الطلب على القطع الأجنبي، وزيادة الصادرات، ودعم المشروعات المتضررة والمتعثرة، وتوفير مستلزمات الإنتاج وحوامل الطاقة، وتنويع قاعدة الصادرات، واستكمال وضع قانون الاستثمار الجديد، وتفعيل التشاركية بين القطاعين العام والخاص.
وشدد البيان على أن الحكومة ستلتزم بتحسين الإيرادات، وتحسين كفاءة الإنفاق العام، وتطوير إعداد الموازنة العامة للدولة، وتحفيز الاقتصاد الوطني، والانتقال تدريجياً لنظام الضريبة على المبيعات، والضريبة الموحدة على الدخل، وتطبيق نظام الفوترة والجباية الإلكترونية.
وأكد البيان الوزاري على أهمية تطوير قطاع الزراعة، وتحسين واقع الأمن الغذائي، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعات الزراعية، وتوفير جميع مستلزمات الإنتاج وزيادته، وتحقيق مخزون مستدام من المحاصيل ذات الأهمية، وإعادة تأهيل مشاريع الري، وإقامة السدود والسدات المائية؛ والأهم.. أن البيان الوزاري شددد على أن الحكومة ملتزمة بإصلاح القطاع العام الصناعي، وإدخال صناعات جديدة، وتعزيز استخدام التقانة، والاستثمار الأمثل للعمالة المتوفرة بهدف تلبية حاجة السوق من المنتجات.
ماذا قال ممثلو الشعب عن البيان؟
وكان متوقعاً أن ينتقد مجلس الشعب البيان الوزاري، فرأى بعض أعضاء المجلس أن الخطوط العريضة للبيان الوزاري تحتاج إلى سنوات لتنفيذها، ولفت آخرون إلى أن البيان الوزاري غابت عنه الأرقام التي تبين واقع التنفيذ، ولم يتم التطرق لواقع القطاع الصناعي العام، وأهمية تأهيل منشآته، ولم يتم توضيح سبب تراجع قيمة العملة الوطنية؛ وتساءل آخرون عن كيفية تطبيق ما جاء في البيان، وكيف سيمارس مجلس الشعب مهامه في محاسبة الحكومة، في ظل غياب الأرقام والمؤشرات والمدد الزمنية التي يجب أن ترد في البيان؛ فيما رأى أعضاء أن هذا البيان مفعم ومشبع بالعبارات التي لا تُلزم الحكومة، فليس فيه جدول زمني، ولا قرارات واضحة، ولا خطط ملموسة، وهو لا يعني المواطن قطعاً!
وطالب عدد من الأعضاء الحكومة بتعديل بيانها بشكل يتناسب مع حل القضايا المعيشية وإيجاد حلول إسعافية واتخاذ قرارات عاجلة تسهم في توفير المواد الأساسية؛ وتمنى آخرون أن يكون البيان خطة إنقاذ سريعة – معيشية واقتصادية ومالية – للمواطنين، كما انتقد بعض الأعضاء غموض البيان تجاه مفهوم إعادة توزيع الدخول، وتوجيه الدعم نحو مستحقيه، وآليات تحقيق ذلك، وعدم ذكر كيفية تحقيق التشاركية في العمل بين الوزارات والجهات العامة.
أين اعتمادات تنفيذ البيان؟
ولقد أصاب مجلس الشعب بقوله أن في البيان الكثير من الوعود التي يحتاج تنفيذها إلى برامج وخطط مادية وزمنية؛ ونضيف أن الموازنة العامة للدولة هي المرآة لمدى التزام الحكومة بتنفيذ بيانها، أي تحويل أقوالها إلى أفعال. فهل موازنة 2021 تترجم أقوال الحكومة في بيانها الوزاري بدعم القطاعات الإنتاجية إلى أفعال؟
لقد بلغت اعتمادات موازنة 2021 بحدود 8500 مليار ليرة، أي أكثر من ضعف موازنة 2020 البالغة 4000 مليار ليرة. لكن ما يهم أكثر من حجم الاعتمادات هو توزعها، وبصورة أكثر دقة ما خصص منها لقطاع الاستثمارات الذي يترجم فعلياً الاهتمام بقطاعي الزراعة والصناعة. وحسب بيان وزارة المالية المقدم لمجلس الشعب، فإن النفقات الاستثمارية لم تتجاوز 1500 مليار ليرة، أي 17.65% من إجمالي اعتمادات الموازنة.. ترى، هل يكفي مبلغ 1500 مليار ليرة لترجمة الأقوال التي تؤكد مراراً وتكراراً على الاهتمام بقطاعي الصناعة والزراعة؟
وإذا افترضنا أن الحكومة تعول على القطاع الخاص، والاستثمارات الخارجية، للاستثمار في الزراعة والصناعة ومشاريع “إحلال بدائل المستوردات”، ألا يجب أن تقدم للصناعيين والمستثمرين التسهيلات والمزايا التشريعية والضريبية والمصرفية؟
ما يصدر من تقارير وتصريحات عن اتحاد غرف الصناعة، ورجال المال والأعمال، وغيرهم من الراغبين بالاستثمار، يؤكد أن ما من حكومة سابقة اهتمت بتذليل الصعوبات والعراقيل أمام الصناعيين والمستثمرين، أو التزمت بتنفيذ وعودها لهم، لأن شغلها الشاغل كان الاهتمام بالاستيراد وبالمستوردين، لا بالصناعيين والمستثمرين أو المزارعين. والأهم من كل ذلك عدم الاهتمام بتحديث وتطوير القطاع العام الصناعي، فما من موازنة رصدت له الاعتمادات الكافية للتطوير.. وحتى الحد الأدنى المرصد للتطوير والتحديث، لا تفرج عنه وزارة المالية إلا بوقت متأخر تعجز فيه وزارة الصناعة عن إنفاقه على مشاريعها الجديدة، بفعل الروتين، وصعوبة الحصول على موافقات الجهات الوصائية، وتحديداً اللجنة الإقتصادية.
وماذا قالوا في الموازنة العامة؟
ومثلما انتقد مجلس الشعب بقسوة البيان الوزاري، انتقد أيضاً بيان وزارة المالية حول الموازنة العامة للدولة لعام 2021، لأنها لم تترجم الوعود الذي تضمنها البيان.
لجنة الموازنة والحسابات في المجلس أشارت إلى “افتقار الموازنة للأهداف القطاعية والمؤشرات الكمية الاقتصادية والاجتماعية المستهدفة، وعدم إشارة البيان المالي لأهداف التنمية الاقتصادية الاجتماعية بشكل واضح وصريح، وعدم تحديد معدل النمو الاقتصادي المستهدف أو معدل البطالة، ومستوى التضخم الواجب احتواؤه، و.. التضخم أحد أسباب زيادة الإيرادات والنفقات”.
ودعت اللجنة الحكومة إلى “دراسة شاملة للواقع الاقتصادي قبل وضع أي موازنة، والعمل على تحسين المستوى المعيشي للمواطنين، وتأمين فرص العمل، ومكافحة الفساد، وحسن إدارة الموارد الوطنية والكوادر البشرية، وحل مشكلة البطالة من خلال دعم المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، وضبط الأسعار وتفعيل الرقابة على الأسواق وإيصال الدعم لمستحقيه”.
ودعا بعض أعضاء المجلس إلى إيلاء القطاع العام ومؤسساته أهمية خاصة، وإعادة هيكلته ودعمه وتطويره، والاستثمار الحقيقي بالزراعة بشقيها النباتي والحيواني، ودعم القطاع الصناعي وحماية المنتج الوطني.
ورأى أخرون أن هذه الموازنة تقشفية، فإذا ما أخذنا تعديل سعر الصرف من 450 ليرة إلى 1250 ليرة نجد أن العمليات الاستثمارية لعام 2021 تراجعت كثيراً، وهذا سينعكس على القطاع الحكومي، إضافة إلى تزايد العجز في الموازنة الذي سيؤثر في الناس حد الإفلاس.
وأشاروا إلى أن الموازنة أعطت في بعض خططها أولوية لقطاعات ثانوية على حساب قطاعات أكثر أهمية. وعلى سبيل المثال، فإن مجموع نسبتي وزارتي الصناعة والزراعة هو 7,2% فقط، مؤكدين على أهمية التركيز على القطاع الإنتاجي لتحقيق موارد داخلية.
وأكد عدد من أعضاء المجلس على ضرورة دعم القطاعات الخدمية والإنتاجية والصناعية، والاعتماد على الصناعات التقليدية، وعدم خصخصة أي مرفق من مرافق القطاع العام تحت مسمى التشاركية، وتطبيق الاستثمار الحقيقي في قطاع الزراعة بشقيه النباتي والحيواني وحماية المنتج الوطني وتثبيت الأسعار.
مثال على الاهتمام الزراعي!!
لم تمر مناسبة إلا وأكدت فيها الحكومات السابقة على أهمية وجود احتياطي كاف من القمح لمدة عام على الأقل، ولم تجد أي حكومة سابقة حرجاً بالتأكيد على أن الاحتياطي من القمح يتم من خلال الاستيراد. وأكثر من ذلك، تم التعاقد لاستيراد 800 ألف طن قمح لتعزيز المخازين من هذه المادة الاستراتيجية.
ومادامت الحكومات منذ عام 2008 – تاريخ تحول سورية من بلد مصدر إلى بلد مستورد للقمح – تؤكد اهتمامها بالقطاع الزراعي، فأين هي الخطط الكفيلة بتأمين احتياجاتنا من القمح محليا؟
وإذا كانت هناك من خطط فعلية لدى وزارة الزراعة، فالسؤال: هل رصدت الحكومات السابقة الاعتمادات الكافية لتنفيذ هذه الخطط ترجمة لشعار “الزراعة أولا”؟
ما من وزير زراعة، منذ عام 2011، إلا وسعى لإنتاج أكثر من أربعة ملايين طن من القمح سنوياً، لكن ما من حكومة سابقة رصدت الإمكانيات والاعتمادات اللازمة لتحقيق هذا الرقم؛ وفي السنوات السابقة بالكاد كان إنتاجنا يصل إلى نصف مليون طن!
وها هو وزير الزراعة الحالي يطلق شعار “عام القمح”، ونتمنى أن ينجح بتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الاستراتيجية، ولكننا نعرف جيداً أن الزراعة تحتاج إلى مستلزمات وإمكانيات وحوافز، فهل رصدت وزارة المالية الاعتمادات الكافية والوافية لإنجاح شعار “عام القمح”؟
وفي حال وجهت الحكومة برصدها، هل ستقرج عنها وزارة المالية في أوقاتها المناسبة؟
نعم.. القطاع الزراعي هو الضامن الحقيقي للإمدادات من السلع والمواد، وبخاصة الاستراتيجية منها، ولكن هذا الكلام سيبقى حبراً على ورق دون رصد احتياجاته من الاعتمادات في الموازنة العامة للدولة، وفق خطط خمسية معدة مسبقاً، والسؤال: أين هذه الخطط؟
نسب تنفيذ “الاستثماري” متدنية!
لنأخذ موازنة 2020 كمثال على عدم تحرير وزارة المالية اعتمادات “الإنفاق الاستثماري” للجهات العامة؛ فحسب بيان الحكومة المالي، لم تتجاوز نسبة تنفيذ الإنفاق الاستثماري 23% خلال النصف الأول من عام 2020، وهو أمر غير استثنائي يتكرر في كل موازنة، لأن الشغل الشاغل لوزارة المالية هو تحقيق وفورات مالية من خلال عدم تحرير الاعتمادات، أو تحريرها بأوقات متأخرة لا يمكن للجهات العامة – باستثناء الخدمية – إنفاقها، وهذا يعني أنها ملزمة بإعادتها لوزارة المالية، أي تدويرها للسنة المالية الجديدة.
ومن الملفت أن تعلن وزارة الصناعة، في منتصف تشرين الأول الماضي، عن وجود وفورات استثمارية لديها بحدود 11 مليار ليرة، مدرجة تحت بنود الاستبدال والتجديد والمشاريع المباشر بها. وكان يفترض أن ينفق هذا المبلغ على مشروع لإنتاج قماش الجينز مع تجهيزات خاصة في شركة نسيج اللاذقية، ومشاريع الاستبدال والتجديد.
وإذا كان المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي قد وافق في تشرين الأول الماضي على الاعتمادات المخصصة لوزارة الصناعة لتنفيذ المشاريع الواردة ضمن الخطة الاستثمارية الخاصة بإقرار الموازنة العامة للدولة للعام 2021، والمصدقة من الحكومة، بعد أن تم إجراء العديد من التعديلات، فهل ستتيح وزارة المالية لوزارة الصناعة الاستفادة من الاعتمادات الإضافية؟
لا اعتمادات كافية للمشروعات الصغيرة
وعندما تطالب الحكومة (بعد إنجاز الموازنة العامة للدولة!!) الوزارات المعنية بإعداد مذكرة متكاملة حول قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر للإطلاع على حجم الدعم المقدم لهذه المشاريع من هذه الوزارات، فهذا يؤكد أن الوزارات المعنية بالتنمية ودوران عجلة الإنتاج لا تعمل وفق خطة حكومية، وإنما حسب رؤيتها الخاصة، وبالتالي من الطبيعي أن تتغير هذه الرؤية مع تغير الوزير. والأهم.. أن غياب الخطط الحكومية لدعم القطاعات الإنتاجية، وبخاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر، يعني عدم رصد الاعتمادلات اللازمة لها في الموازنة، وهذا ما يحصل على مدى السنوات الماضية؛ وفي حال رصد اعتمادات خجولة لها لا تتناسب مع حجمها وأهميتها ونسبتها العالية في النمو، فإن وزارة المالية بالكاد تفرج عن بعض هذه الاعتمادات، كما حصل في موازنة 2020!
.. ومثال على غياب التخطيط
وما يؤكد غياب الرؤية الاستراتيجية أو الخطط الخمسية للتنمية المستدامة أن جميع الحكومات السابقة، منذ عام 2003، تطلب من وزرائها تزويدها بمذكرات عن إنجازاتها النوعية كل نصف عام، وأهم القرارات التي أصدرتها وتخدم العملية الإنتاجية والتنموية، وتحديد تكاليف المشاريع التي نفذتها.
ولو كانت الحكومات السابقة تعمل بخطط خمسية أو عشرية، أو حتى بخطط طارئة موزعة على خطط سنوية ترصد لها الاعتمادات في الموازنة العامة، لكان مجلس الوزراء يتتبع مسار تنفيذها في جلساته الأسبوعية، ولكانت محور مناقشات مفصلة في اجتماعات نوعية تعقد شهرياً!!