دراساتصحيفة البعث

فرنسا وتركيا.. صراع متعدّد الجبهات

د. معن منيف سليمان

احتدم التنافس بين فرنسا وتركيا، وتعدّدت جبهات الصراع بينهما، واتسعت لتشمل حوض المتوسط في قبرص واليونان، وصولاً إلى جبهة أفريقيا، وبلدان المغرب العربي الكبير، وآخرها جبهة القوقاز في ناغورني قره باغ. وتسبب التنافس في توتر العلاقات وتبادل الاتهامات بين الجانبين، ما دفع ماكرون لتشكيل جبهة موحّدة ضدّ رئيس النظام التركي واقتراح فرض عقوبات أوروبية على أنقرة، في حين رسم أردوغان لنفسه صورة القائد الوحيد للعالم الإسلامي، فبدأ حملته التصعيدية ضدّ فرنسا ودول أوروبا، باسم الإسلام والمسلمين.

وصلت العلاقات الفرنسية التركية لمرحلة غير مسبوقة من العدائية، بعد أن استدعت باريس سفيرها في أنقرة للتشاور، فردّت أنقرة بهجوم معاكس ضدّ باريس، حيث هاجم أردوغان الرئيس الفرنسي من جديد والأمر نفسه كرّره وزير خارجية النظام التركي، وهو أمر رفضته فرنسا في بيان رسمي.

لقد دأب أردوغان والمسؤولون الأتراك على إطلاق خطابات الكراهية، وتحريض الجاليات التركية لإثارة الفتن الداخلية، وهي ورقة يلعب بها أردوغان منذ سنوات، بعد أن مهّد لها وموّل جماعات متطرفة داخل أوروبا، ومع تضييق الخناق على هذه الجماعات مؤخراً، بدأ أردوغان حملته التصعيدية ضدّ فرنسا ودول أوروبا، باسم الإسلام والمسلمين.

لقد تصاعدت حدّة التوتر بين الجانبين وبدا ذلك واضحاً في تصريح الرئيس الفرنسي عندما قال إنه اتخذ موقفاً صارماً الصيف الفائت فيما يتعلق بأفعال تركيا في شرق المتوسط لوضع خطوط حمراء، لأن أنقرة تحترم الأفعال وليس الأقوال، وأضاف “يمكنني أن أبلغكم أن الأتراك لا يدركون ولا يحترمون سوى ذلك. إنها سياسة تتعلق بوضع خط أحمر”. فردّ أردوغان “ندعو نظراءنا إلى التحلّي بالذكاء وتجنّب الأخطاء التي ستؤدّي إلى تدميرهم”. كما وجه أردوغان كلامه باتجاه الرئيس الفرنسي قائلاً:” إن له أهدافاً استعمارية” في لبنان، وأضاف إن “ما يريده ماكرون وفريقه هو عودة النظام الاستعماري في لبنان”. وقال متحدثاً عن ماكرون “ينبغي ألا يظن أنه أكبر مما هو”.

وتصاعدت التوترات بين الجانبين خلال الأشهر الماضية على خلفية أنشطة أنقرة في المياه اليونانية والقبرصية التي دفعت فرنسا لتحريك بوارج حربية، واضطر الاتحاد الأوروبي للتهديد بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية على تركيا.

الرئيس الفرنسي خلال اجتماع مع دول حوض المتوسط طالب أوروبا بسياسة واضحة وحازمة تجاه أطماع أردوغان في شرق المتوسط وقال ماكرون في تصريحات صحفية: ” يتعين أن نكون، نحن الأوروبيين، واضحين وحازمين، ليس مع تركيا كأمة أو كشعب، وإنما مع حكومة اردوغان”، متابعاً “تركيا لم تعد شريكا”.

التنافس التركي الفرنسي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة ليصل إلى دول القارة السمراء. وعلى الرغم من أن النيجر حاولت عدم إقحام نفسها في الأزمة الليبية، فإن حدودها مع ليبيا جعلتها محط أنظار أنقرة وباريس، فتسارعت إليها الوفود الرسمية من البلدين، فقد شهد شهر كانون الأول من العام 2019، زيارة رسمية لماكرون للنيجر، وهو التاريخ المتزامن مع بدايات الاتفاق بين تركيا وطرابلس.

وتشكو باريس من مساعي أنقرة لاستخدام حضورها لاستهداف الوجود الفرنسي كما هو حاصل مثلاً في ساحل العاج. ولهذا وجه ماكرون سهامه إلى تركيا ودول أخرى وبعض القادة الأفارقة، وقال إن “أنظمة خارجية ومشاريع سياسية – دينية تلجأ إلى استغلال الاستعمار وسيلة لاستهداف فرنسا بما في ذلك من الأجيال التي لم تعرف الاستعمار”.

وللتدليل على النشاط التركي، تجدر الإشارة إلى أن أنقرة تتمتع اليوم بـ46 سفارة، فضلاً عن تسيّير الطيران التركي رحلات إلى 60 مدينة أفريقية. مع توالي زيارات أردوغان إلى العواصم الأفريقية. وتعوّل تركيا على المؤتمر السنوي التركي – الأفريقي لتعزيز حضورها، كما تلعب على الوتر الديني الذي ترى فيه باريس تفعيلاً لـ “الإسلام السياسي”. هذه الأسباب مجتمعة تفسّر هجمة ماكرون على الدور التركي في القارة السمراء.

وتبدو بلدان المغرب العربي الكبير ساحة صراع مفتوحة على النفوذ بين فرنسا وتركيا. وتشكل أحزاب الإسلام السياسي المشاركة في الحكم بتونس والمغرب وليبيا، هدفاً واضحاً في مرمى فرنسا وفق إستراتيجية ماكرون.

ففي ليبيا منيت فرنسا بخسائر إستراتيجية كبيرة بسبب التدخل التركي، ولذلك كان ردّ فعل باريس قوياً إلى جانب اليونان ضدّ تركيا في صراعها، إذ نتج عن التحالف بين “الوفاق” برئاسة فايز السراج وأردوغان، تداعيات عسكرية وإستراتيجية دراماتيكية على النفوذ الفرنسي. ونشبت المواجهة بين فرنسا وتركيا قبالة الشواطئ الليبية، حيث نشرت تركيا في المكان نفسه سفن حفر حديثة للبحث عن الغاز في المنطقة، فضلاً عن الحضور التركي العسكري في ليبيا الذي ترى فيه باريس تهديداً للمصالح الفرنسية الأوروبية وللاستقرار في بلدان شمالي أفريقيا وبلدان الساحل الخمسة التي تتمتع فرنسا فيها بحضور تقليدي.

وفي تونس لا تخفي فرنسا عدم ارتياحها لنفوذ “حزب النهضة الإسلاموي” الذي يتزعمه رئيس البرلمان راشد الغنوشي حليف أردوغان، إضافة إلى انزعاج فرنسي من حضور “ائتلاف الكرامة” ذو التوجه الإسلاموي الشعبوي الذي يرفع منذ ظهوره على الساحة السياسية التونسية شعارات موجهة ضد النفوذ الفرنسي في البلاد.

وفي المغرب، ورغم العلاقات الإستراتيجية العميقة بين المملكة وفرنسا، يعتقد مراقبون أن باريس لا تنظر بعين الارتياح لنفوذ “حزب العدالة والتنمية” الإسلاموي في الحكومة الائتلافية التي يتولى رئاستها أمين عام الحزب سعد الدين العثماني.

وكان لافتاً أن الرئيس ماكرون أوفد وزيريه في الداخلية والخارجية إلى عواصم المغرب، مباشرة بعد إعلان إستراتيجيته الجديدة.

وكدليل آخر على التصعيد الفرنسي – التركي، فإن باريس كانت تسعى لمنع تركيا من أن يكون لها دور في الإشراف على وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه الوساطة الروسية بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني قره باغ. وقالت مصادر الرئاسة الفرنسية: إن باريس تريد إشرافاً دولياً وهي تضغط من أجل “إشراف دولي” على وقفٍ لإطلاق النار، بغية السماح بعودة اللاجئين وتنظيم عودة المقاتلين الأجانب، فضلاً عن بدء محادثات بشأن وضع ناغورني قرة باغ. وفرنسا عضو في “مجموعة مينسك” الموكل إليها منذ عشرين عاماً السعي لإيجاد حلول لأزمة ناغورني قره باغ، لكن هذه المجموعة كانت عاجزة عن التأثير على مسار الأمور أو التوسط لوضع حد للحرب.

إن ماكرون لن يتراجع عن تحركاته القوية ضدّ أنقرة، لأن الأخيرة تحاول توسيع نفوذها في شمالي وغربي أفريقيا، وهي مناطق إستراتيجية بالنسبة لفرنسا.

صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية كتبت إن “ماكرون يتخذ خطوات واضحة لتشكيل جبهة قوية ضد أنقرة في جنوب المتوسط”، مضيفة “الرئيس الفرنسي لم يعد يريد التصرف بشكل أحادي، ويريد تصرفاً جماعياً ضدّ التحركات التركية”، وتضيف: إن تكوين جبهة موحدة ضد تركيا في جنوب المتوسط، يفاقم عزلة الأخيرة، ويزيد الضغوط السياسية عليها.

إن أردوغان يعلم يقيناً أن القمة الأوروبية المقبلة ستفرض عليه عقوبات اقتصادية لا مفر منها، لهذا استغل حوادث وتصريحات لمسؤولين فرنسيين لتضليل الرأي العام التركي والإسلامي، وتحويل قضية الانتهاكات التركية في شرق المتوسط، والعدوان على المياه الإقليمية والاقتصادية لليونان وقبرص، وانتهاك القانون الدولي بتهريب المرتزقة والسلاح إلى ليبيا، وتحويل القضية لمعركة وهمية تظهره المدافع عن الإسلام، لأن مثل هذه المعارك تؤثر بشكل كبير داخل المجتمع التركي، وهو ما يحتاجه أردوغان، للهروب من مسؤولية انهيار الاقتصاد بسبب سياساته العدوانية.