ثقافةصحيفة البعث

قول على قول

في الوقت الّذي تتنافس به العقول في العالم المتقدّم عبر التكنولوجيا المتطوّرة للوصول لحافّة الفضاء ما بعد المرئي والمعروف للإنسان المعاصر، وتقوم بتصنيع مضادّات ولقاحات لمعظم الجراثيم والفيروسات المستعصية المتناهية الصّغر واختراع وتصنيع ما بين هذا وذاك من معدّات صناعيّة بمختلف أنواعها في سباق محموم لمواكبة العصر والبقاء في القمّة، اعتبرت هذه المجتمعات أنّ الأدب بشكل عام والشّعر بشكل خاصّ حالة فكريّة وثقافيّة تحافظ على إنسانيّة مجتمعاتها في زخم كلّ هذا الضجيج، فقامت بتوفير مستلزمات رفاهيّة مثقفيّها من مفكّرين وأدباء وشعراء، ماديّة كانت أو معنويّة، فبقي العقل عندهم بحالة نقد مستمرّ للوصول إلى أعلى المستويات العلميّة والفكريّة والثّقافيّة، ووصل العالم المتقدّم والمفكرّ حقيقة وارتقى، لأنّ تطوّره كان يسير بخطى مدروسة وبتعقّل ويتّبع طرقاً منهجية فوصل لما وصل إليه من سموّ ورقي واحترام للآخر. وبقينا نحن نعتبر أنّ التّطوّر والحداثة محصوران بعلم الكلام والأدب واتّباع الآخرين بأساليبهم، ونمارس الإلغاء الفكريّ وحتّى الشخصيّ بأغلب الأحيان، وكأن الذّات لا يمكن إثباتها إلاّ بموت وفناء طرف على حساب طرف آخر، وبقينا نفكرّ ببدائيّة.

وحين ننظر للسّجال القائم بين الأصالة والجّذور والأساليب الأدبيّة الجّديدة التي بدأت تنتشر وتبصر النّور يفاجئنا هذا الكمّ الهائل من التّشويه والتّهكّم الذي يطال تاريخنا وتراثنا، وكأنّ الموضوع ساحة معركة وليس تطوّراً منطقياً حتميّاً للأشياء نرى أنّ كلّ فريق يريد فرض وإثبات رأيه برفع مستوى مفردات الحوار بما لا يتناسب مع المواضيع المطروحة على الساحة. إن من ينكر التطوّر والحداثة كمن يتهجم على الأصالة والجذور، هما سواء بسواء.

نعم هو منطق الأمور وحركة التاريخ السير للأمام والإبداع المتواصل لطرق ومناهج تنتج حلولاً لما يعترضنا من معضلات واختناقات أثناء مسيرة الحياة المتّصلة والمستمرّة، وهي متّصلة ببعضها كالبناء يبنى لبنة إثر أخرى ليكتمل بتعاضد بين الأساس والسقف، فلا الأساس يقول للسقف أنا الأصل لأنّك بدوني تتعرض للانهيار، ولا السقف يقول أنا الأصحّ والأصلح لأنّي أعلى منك وأنت تتفيّء بظلّي ومستمرة لأنها حين تتعرض لاختناقات ومعضلات تاريخية يبرز دور المبدع ليستنبط طرقاً مبتكرة جديدة وحلولاً جذريّة لها.

هل نحن بحاجة لهذه المهاترات حقاً، أم نحن بحاجة لنخب تفهم وتعي خطورة هذه المرحلة المليئة بالفوضى على كافّة المستويات والصّعد. فحين توصّل العالم المتمدّن لأرقى العلوم والاكتشافات لم يتنكّر لرموزه وبقي يحترمها ويجلّها ويقيم لها النّصب التّذكاريّة التي تذكّر الجميع وخاصة النّشء الصاعد بها كي لا يشعر الناس بالاغتراب الرّوحي والانسلاخ عن الأصالة والهويّة. علينا أن نتذكّر دائماً أنّنا حين نقوم بتغيير شيء بإفراط يتحوّل إلى شيء آخر عبر الزمن، وليس من المنطقي أن نطلق عليه الاسم القديم نفسه، وهذا لايعني أن ما تحوّل له ليس وجوداً مبدعاً وخلاقاً.

وفي نهاية القول.. هي أفكارنا تتنافر وقد تتصادم وتتقارب وقد تتآلف، ولكن ألا يجب أن تبقى القلوب خارج كلّ هذا لتبقى عامرة بالمحبة ألا يكفينا تشرذماً وفرقة؟.

أمين إسماعيل حربا