دراساتصحيفة البعث

أوروبا… الهوية الضائعة

إبراهيم أحمد

أربع سنوات من حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت كافية لوضع القارة الأوروبية العجوز في متاهة البحث عن ذاتها، عن هويتها واستقلاليتها التي اكتشفت فجأة أنها مفقودة على الرغم من تاريخها العريق والموغل في القدم قياساً بالولايات المتحدة.

لم تكن الحالة الأوروبية مختلفة كثيراً عما خلّفته تداعيات النهج الترامبي الذي رفع شعار “أمريكا أولاً” في معظم أنحاء العالم، لكنه شكّل ما يشبه الصدمة لأوروبا التي كانت تغفو على كتف العلاقات الدافئة والتحالف الاستراتيجي والمصالح المشتركة مع الولايات المتحدة، لتصحو فجأة على وقع المطالبة بتدفيعها ثمن الحماية الأمريكية لأمنها، وعلى وقع التهديد بالانسحابات المتعددة، سواء من حلف “الناتو” أو الهيئات والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهي فضاءات مهّمة للأوروبيين، لإثبات وجودهم وتحركاتهم في الساحة الدولية، علاوة على التلويح بالانسحاب من بؤر الصراع الملتهبة في العالم، وترك الأوروبيين وحدهم في مواجهتها.

هذا الانكفاء الأمريكي ولّد شعوراً لدى الأوروبيين بأن الولايات المتحدة في طريقها للتخلي عن زعامتها العالمية ودورها القيادي لمصلحة خصومها التقليديين والقوى الصاعدة في العالم، وهو ما يضعف الموقف الأوروبي على وجه العموم. لقد اتضح للأوروبيين- خلال سنوات ترامب في سدة الحكم- أنهم كغيرهم قد يتعرضون للعقوبات الأمريكية، وأن الشراكة الاقتصادية والأمنية والعسكرية، تخضع لحسابات الولايات المتحدة وحدها – حسابات الربح والخسارة – وأن دورهم لا يتعدى تلبية الاحتياجات الأمريكية، والانخراط في خطط واشنطن التجارية والأمنية من دون أي نقاش.

وفي النهاية اكتشف الأوروبيون أنهم ليسوا بمنأى عن خطط واشنطن لتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه، كما تجلى واضحاً في تشجيع بريطانيا على الخروج وإغرائها باتفاقات تجارية وأمنية بديلة، بهدف إضعاف أوروبا وإبقائها في دائرة التبعية المطلقة لواشنطن. وعلى وقع كل هذه العوامل وغيرها من التفاصيل الكثيرة، بدأت الأصوات تتعالى، خصوصاً في فرنسا وألمانيا، لشكيل قوة أوروبية موحدة أو “جيش أوروبي”، لاستعادة الهيبة الأوروبية، وتمكين القارة العجوز من الاعتماد على نفسها في حماية أمنها واستقرارها والدفاع عن شعوبها بغض النظر عما ستؤول إليه العلاقات مع الولايات المتحدة.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانا من السبّاقين في الدعوة لإعادة بناء “أوروبا قوية” بمعزل عن الولايات المتحدة، حتى أن ماكرون اعتبر أن إعادة بناء “أوروبا قوية” هو المسار الصحيح لخلق توازن في العلاقات يؤدي إلى تعاون مثمر ومفيد، ورأى أن “الولايات المتحدة لن تحترمنا كحلفاء إلا إذا كنا سياديين في دفاعنا الخاص”، وأن “تغيير الإدارة الأمريكية فرصة لمواصلة بناء استقلاليتنا بطريقة سلمية وهادئة كما تفعل واشنطن لنفسها وكما تفعل الصين لنفسها”.

في هذا الإطار جاء قرار الجيش الأمريكي بسحب نحو ثلث قواته المنتشرة في ألمانيا، ليضيف شرخاً جديداً بين إدارة الرئيس دونالد ترامب وحلفاء الولايات المتحدة التقليديين، خصوصاً الأوروبيين منهم، كما يدفع بتساؤلات مبكرة عن مصير هذه العلاقات التي عمّرت عقوداً من الزمن، ورسمت جزءاً مهماً من خريطة العالم، بعد الحرب العالمية الثانية.

ربما كان ترامب يعتقد بأن اتخاذ هذا القرار سيوجع برلين، ويجعلها تسارع إلى استرضائه بدفع مزيد من الأموال كما يطلب، لكن رد فعل الأولى جاء بعكس ذلك، فقد قال وزير الدولة لشؤون أوروبا في وزارة الخارجية الألمانية: “يجب ألا نتذمر ونتحسر الآن، لكن علينا إدراك الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية على أنها ناقوس إنذار، وفرصة لتعزيز سيادتنا الأوروبية”، قبل أن يثعبّر صراحة أن الوقت حان لأوروبا كي تقف على أقدامها، وتُعّزز دورها في العالم، وهو موقف ينسجم مع وعي يتمدد في “القارة العجوز منذ أن دخل ترامب إلى البيت الأبيض، ويرمي إلى بناء نظام أمني مستقل عن الأمريكيين، وإقامة علاقات حسنة وتعاون مع القوى الكبرى مثل: روسيا والصين، بعيداً عن أجندة واشنطن التي تقوم على “صناعة الخصوم” سبيلاً لتعزيز نفوذها العالمي.

قبل أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ الأوروبيون يقتنعون بأن رياح التغيير الكبير بدأت تهب على الوضع العالمي من أكثر من اتجاه، وبدأت هذه القناعة تترسخ بعد تصويت البريطانيين في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وهناك من توقع مبكراً تقلباً في السياسة الأمريكية، وهو ما تجسد واقعاً مع إدارة ترامب، لتنقلب المعادلة التاريخية، وتصبح العلاقة بين الطرفين أقرب إلى التنافس منها إلى الصداقة والتعاون. ويبدو أن كل محاولات رأب الصدع قد فشلت، وبدأت الدول الأوروبية تضيق ذرعاً من سياسة الابتزاز الأمريكية التي تجاوزت كل الحدود، على الرغم من أن بعض المطلعين يؤكدون أنها حالة ليست مستغربة، وتنسجم مع السيرورة التاريخية التي تأبى الثبات، فالعالم الذي جرت هندسته بعد هزيمة النازية منتصف أربعينات القرن الماضي لن يدوم إلى الأبد، خصوصاً بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي، وصعود القوة الصينية الجّبارة.

لقد أصبح الأوروبيون، وفي مقدمتهم الألمان، على ثقة بأن حفظ أمن القارة كلها لن تنهض به القواعد الأمريكية المدججة بالأسلحة والجنود، وإنما بفتح جسور الحوار وتأمين المصالح مع القوى الأخرى، لا سيما موسكو وبكين. أما الحديث عن تهديد روسي لأوروبا، فهو تعبير عن معادلة قديمة لم تعد تُعّبر عن هذا العصر. ولكن واشنطن تتعمد إحياءها كلما ماتت حتى لا تفقد سطوتها وحضورها، وهو ما يفعله وزير الخارجية مايك بومبيو الذي لا يكل عن التحذير من خطر قادم من الشرق، تارة من روسيا وتارة أخرى من الصين، ويبدو أن ذلك لا يجد صدى لأن الأوروبيين ينظرون إلى العالم بمعايير مختلفة وبمناظير غير أمريكية.