أربعاء التمرّد: إرهاصات وأسئلة مصيرية في حياة امبراطورية
“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن
“جمهورية الموز” هو التعبير الذي جال في أذهان الكثيرين حول العالم وهم يتابعون أحداث السادس من كانون الثاني الحالي، والتي كان مسرحها، في سابقة تاريخية لافتة، “تلة الكابيتول”، وداخل أروقة ومكاتب الكونغرس الأمريكي، أو قدس أقداس الامبراطورية وفخر ديمقراطيتها التي سعت واشنطن لتعميم مبادئها كقوة ناعمة لهيمنة أبدية على العالم أجمع، لكن الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، هو من استخدم هذا التعبير حرفياً في هجومه على “القادة الجمهوريين الذين أجّجوا حالة التمرّد”، فما حصل بالنسبة لـ بوش “يليق بجمهوريات الموز وليس بجمهوريتنا الديموقراطية”.
بيد أن اقتحام “الدهماء الإرهابية” أو “عصابة ترامب” – حسب توصيف وسائل الإعلام الرئيسية – للكونغرس لا يمكن اختزاله بوصف تحقيري لعمل لا يحدث إلا في “جمهورية موز”، بحسب أحد ممثلي “الاستبلشمانت” الأمريكية، وبالتالي فهو أيضاً، وأولاً، يتجاوز قضية ألا ينسى الشعب الأمريكي “أسماء هؤلاء الجمهوريين الذين حاولوا الانقلاب”، بحسب عنوان مقالة توماس فريدمان الأخيرة في “النيويورك تايمز”، وأبعد من ذلك، فهو يتجاوز الجدل الدائر حول إمكانية عزل ترامب أو معاقبته، لأن المسألة – كما أظهرت الوقائع – تتجاوز شخص “رئيس مختلّ ومضّطرب”، كما وصفته نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، أو من هو – بحسب نعوم تشومسكي – “أكثر من مهرّج وأقّل من مريضٍ نفسانيٍّ”.
والحال فإن ما جرى – بتاريخيته ومكانه ونوعية القوى القائمة به – يستدعي أولاً، وقبل أي شيء آخر، تصويب النقاش نحو أسئلة أخطر عن كيفية وصول الإمبراطورية الأقوى تاريخياً إلى هذه المرحلة، وذلك هو تحديداً لبّ المسألة وجوهرها، وعنه وفيه سيجري حديث طويل عن مسار معين تراكمت على جنباته رواسب أسباب متشابكة ومترابطة، ربما كان أهمها ما يسمّيه المؤرّخ البريطاني الشهير بول كينيدي “التوسّع الإمبراطوري الزائد”، فاستناداً إلى قصة صعود وسقوط الامبراطوريات الأخرى تاريخياً، يتطلب هذا التوسّع حروباً خارجية متتالية، بعضها تترتب عليه أكلاف بشرية واقتصادية باهظة سيكون من الطبيعي أن يتردد صداها في الداخل بصورة أزمات داخلية، اجتماعية واقتصادية، متعددة تضعف قدرة البلاد على تمويل هذه الحروب، وتسهم بالتالي في تآكل الهيبة الامبراطورية؛ وهذا غالباً ما يترافق، وبالتوازي، مع ظهور منافسين عالميين أكثر جرأة في قصة الصراع الدائم حول الموارد المتناقصة باستمرار.
بكلام آخر، فإن أولى نتائج انحدار هيمنة الإمبراطورية خارجياً يتمثل في تسعير تناقضات قواها الرئيسة داخلياً، وهي تناقضات ليس لها سوى المساهمة في تفاقم الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية الموجودة سابقاً، والتي كان يغطيها الحلم الامبراطوري ومكاسبه المادية المباشرة، الأمر الذي يسبّب ظهور فئة بشرية، اجتماعية واقتصادية، وازنة ترى أن السياسة والمكاسب التي لم تعد تسمع عنها إلا في وسائل الإعلام تُبنى وتُجنى على اسمها وحسابها، سواء من قوى فاعلة أخرى في الداخل أو دول، غريبة، مستفيدة في الخارج، وفي حالة أمريكا كانت هذه الفئة هي الكتلة البيضاء الغاضبة “المشحونة بموروث العنصرية الأميركية المتجذّر والأطروحات الجديدة المستلهمة منه” والتي تعتبر نفسها صاحبة البلاد والمؤسسة لها، وكانت “القوى الفاعلة الأخرى” في الداخل هي كل ما سواها من أمريكيين قدماء ومهاجرين جدد اعتبرتهم أعداءها، بل السبب الرئيس فيما تعانيه في “بلادها”، وأكثر من ذلك آمنت هذه “الفئة الترامبية” التي أثبتت الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنها تكاد تمثّل نصف البلاد، وتحديداً النصف الأكثر محافظة فيه، أن هؤلاء “الآخرين” سرقوا نصرها الانتخابي لأنهم يسيطرون على المؤسسات الأمريكية المختلفة بل “يحتلونها” فعلياً، وبالتالي لا بد من الحرب ضدها، وهنا من المناسب الإشارة إلى ما أورده باراك أوباما في كتابه الجديد عن “انقسامات أميركا العميقة”، فهناك – بحسب الرجل – “أزمة متجذّرة بين رؤيتين مختلفتين لأميركا، ما هي عليه وما يجب أن تكون”، وبالتالي – كما يضيف محقاً – و”لأن انقساماتنا عميقة، وتحدّياتنا رهيبة” فإن “انتخابات واحدة لن تحسم الأمر، ولن تكون مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض كافية وحدها لتصحيحها”.
بهذا المعنى لا يجب النظر إلى ترامب إلا بكونه معبّراً أميناً عن هذا السياق التاريخي بقدر ما هو نتيجة طبيعية له، وبالتالي لم ولن يكون السادس من كانون الثاني يوماً عابراً في التاريخ الأمريكي، بل لربما – ونقول لربما – كان يوماً تأسيسياً لعصر جديد تفتتحه “الظاهرة الترامبية”، التي ستستمر حتى ما بعد ترامب ذاته كشخص، و”الأمة” التي توحّدت قسرياً بحرب أهليّة دامية، ثم جرت صياغتها “هوليودياً” بالاستثمار في قدسية “الأرض الموعودة” و”الحلم الأمريكي” ورسختها قوة عسكرية باطشة، ستجد نفسها أمام سؤال المصير الحتمي متى انتهى كل ذلك، وهو يقارب على الانتهاء، وبذلك لن يكون اقتحام الكونغرس سوى خطوة أولى على طريق طويل، فالمعركة الداخلية اليوم هي مع الدولة العميقة، مع جورج واشنطن ذاته وليس مع جو بايدن فقط، وتلك علامة دالة بكل تأكيد.