مجلة البعث الأسبوعية

بين الإمكانيات المتاحة والمهدورة.. الاستثمارات الرياضية ضائعة بين الجهل والطمع والمصالح الشخصية!!

“البعث الأسبوعية” ــ ناصر النجار

منذ أكثر من عقدين من الزمان، كان شعار رياضتنا “الإمكانيات المتاحة”، وهذا الشعار وقف أمام تطور الرياضة، بل وأعطاها مبرراً لكل تقصير وإهمال، فسمعنا سابقاً جملة “هذه حدودنا!!”، وسمعنا لاحقاً جملة “هذه إمكانياتنا!!”، لذلك كان الحصاد ضعيفاً، ولا يلبي الطموح، وجاء على مبدأ: “لا جود إلا بالموجود!!”.

وللأسف، لم نجد المسؤول الرياضي الذي يتجاوز هذه “الكليشات” البالية، فيعمل بجد على تحويل الإمكانيات المتاحة إلى إمكانيات جيدة، رغم احتمال تحقيق ذلك، فالأمر لا يحتاج إلى معجزات ولا إلى “سوبرمان”، بقدر ما يحتاج إلى جهد وعمل وبذل وإخلاص.

ثم ضعنا في زواريب المنشآت الرياضية، ما بين البشر والحجر، وجاءت المقولة الشهيرة لتحدد المواقف وتنهي الصراع، فقيل: “لكم البشر ولنا الحجر”، لكن هذا الكلام لم يرق للبعض، فخاض الرياضيون صراعاً متجدداً كبيراً ومريراً حول المنشآت، وبدأت التحالفات والدسائس والمكائد، حتى عاد الحجر إلى الحضن الرياضي. واليوم، نجد منشآتنا في حالة يرثى لها، فالمنشآت التي لم تطلها يد الإجرام طالتها يد الفساد، وبقيت رياضتنا تعتمد على الطفرات دون أي منهجية، أو فكر، أو خطة أو إستراتيجية، وبقيت النظريات على الورق تحتفظ بمدادها الذي محته السنوات السابقة.

مع إطلالة العام الجديد، نجد أننا أضعنا عاماً كاملاً بحجج واهية، ربما أبرزها “كورونا” التي أغلقت ملاعبنا ونشاطاتنا شهرين، أو أكثر بقليل؛ وأضعنا بقية الوقت في التبديل والتغيير في الأندية والاتحادات ضاربين بالانتخابات عرض الحائط، دون أي حساب للوقت الضائع أو للقانون.. سنة كاملة مرت دون طائل، نشعر من خلالها أن الوقت لا قيمة له في رياضتنا، مثل المال تماماً!! مشغولون بالرياضة عن الرياضة، فالهمّ والاهتمام البحث عن مصالحنا الخاصة، وسياستنا: “هذا معنا وهذا ضدنا”، ما زالت قائمة منذ الأزل، والجديد نظرية المؤامرة! وما دامت هذه الشعارات تقوم عليها رياضتنا، فلن نتوقع أي تطور قادم.

بكل الأحوال، ليست مشكلتنا في الرياضة بالإمكانيات المتاحة، وليست بالمنشآت الرياضية، إنما تكمن بالعقلية التي تحكم رياضتنا بكل مؤسساتها، والأمثلة التي سنوردها تضع النقاط على الحروف، والغاية من هذا الحديث الانتباه لواقعنا والبحث عن خيارات أفضل، وخصوصاً أننا استقبلنا العام الجديد، ولا يهمنا الأشخاص ولا تهمنا التسميات.. ما يهمنا هو الحدث، والإشارة إلى مواقع الخلل ليتم تصويب الطريق، ليصل بنا إلى التطور الرياضي المنشود الذي ينتظره كل عشاق الرياضة الوطنية.

 

الإمكانيات المتاحة

نادي الفتوة – على سبيل المثال لا الحصر – يملك الكثير من الإمكانيات المتاحة التي يمكن أن تصبح جيدة رغم أنه بعيد عن محافظته، ولا يملك منشآت أو ملاعب أو مطارح استثمارية؛ لكن بالمقابل، لا ينقصه شيء، وتقوده مجموعة من رجال الأعمال الذين يوفرون للنادي كل شيء من مال ومستلزمات، حتى صار النادي مثالياً من النواحي الإدارية والتنظيمية والإعلامية، لكنه تعيس فنياً؛ وها هو يحتل ذيل قائمة الدوري الممتاز بكرة القدم مع الساحل دون أي فوز! أما بقية الألعاب فحدث ولا حرج، فهي غائبة تماماً، وإن كانت هناك محاولات للبدء ببعث الروح فيها!! لذلك نتساءل: ماذا فعل المال بكرة الفتوة؟

التوظيف كان خاطئاً، لأن القائمين على النادي لا يملكون الخبرة الكافية في العملية الرياضية، فنجحوا في أعمالهم الخاصة وفشلوا رياضياً، وربما كانوا ضحية من أشار عليهم بانتقاء اللاعبين أو اختيار المدربين.. حتى الآن، وبعد تسعة مراحل، قاد النادي فنياً ثلاثة مدربين، ومعهم عدّة مساعدين، أي أن النادي مرّ عليه أكثر من عشرة مدربين، وهذا تكرار للموسم الماضي الذي تعاقب خلاله على تدريب فريق الرجال أكثر من عشرين فنياً بين مدرب ومدرب مساعد.

وهناك الكثير من الخبايا التي آن لها أن تفتح على هذه القضية، وآن للحقيقة أن تظهر: البعض يتحدث عن أموال مهدورة بلا طائل، وعن عمولات من تحت الطاولة مارسها بعض المقربين من الإدارة!!

 

ماذا بعد؟

في ظل هذا الحال، نجد البعض يتباكون على الفريق وينشدون العودة إلى ملعبهم وجمهورهم في دير الزور، ليبعدوا الأنظار عن أخطائهم، وربما عن فسادهم.

في هذه القضية، فإن الشراكة الرياضية بين خبراء الرياضة ورجال الأعمال هي الحل، ويجب أن تكرّس للمصلحة العامة، فلا يخسر النادي اسمه وتاريخه، ولا يخسر رجال الأعمال مالهم بلا فائدة.. إن الشراكة الرياضية تؤمن بأن من يقود الأندية رياضيون لهم خبرتهم وتاريخهم، ومعهم رجال أعمال داعمون ومحبون يتدخلون بمالهم فقط، ولا يتدخلون بالأعمال الفنية، فيفرضون لاعباً أو مدرباً أو منهجاً أو صيغة علاقة. والشراكة الرياضية هذه تمت سابقاً بنجاح في أندية عدّة، لكنها فشلت عندما كان لغير الرياضيين كلمتهم في الرياضة، لذلك يجب إعادة النظر في التركيبة الإدارية للأندية التي طار منها الرياضيون بفعل سطوة المال والشهرة.

 

الإمكانيات المهدورة

الكثير من أنديتنا يملك منشآت عملاقة ومساحات واسعة مملوءة بالاستثمار الرياضي والتجاري؛ وهذه الأندية لم تقدم للرياضة أي شيء، وعلى العكس قدمت للمستثمرين أماكن في أفضل المواقع لفائدة جيوبهم.

هذه الأندية بعيدة عن العين وعن القلب وعن الضمير، ولم نسمع عن إنجازاتها أي شيء؛ والحديث هذا لا يخص هذا العام، أو سنوات الأزمة، إنما مرحلة كاملة منذ تأسيس منظمة الاتحاد الرياضي العام وحتى الآن، لذلك نتساءل: ما الدور الذي قامت به هذه الأندية على الصعيد الرياضي؟ وما انجازاتها؟ وما الدور المفترض أن تقوم به؟

لنجيب على هذه التساؤلات، نأتي بنادي النضال كمثال حي وواقعي يشرح كل شيء.

وللأسف، نتحدث بشكل واقعي، فعذراً ممن ستحبطهم هذه الصراحة وستزعجهم هذه الحقائق!! النادي، خلال أكثر من أربعة عقود، لم يقدم لاعباً واحداً بكرة القدم، ولم يقدم سباحاً واحداً، ونتحدث عن هاتين اللعبتين تحديداً لأنه يملك ملعباً حلماً ومسبحاً كبيراً مع بحرات إضافية، ويملك أيضاً ملاعب صغيرة تصلح لكرة اليد والسلة والطائرة والتنس، ويملك صالات مغلقة للألعاب الفردية وألعاب القوة وصالة إيروبيك؛ وهذه المنشآت الرياضية لم تخدّم رياضياً، فلم تخّرج بطلاً رفع اسم سورية عالياً في المحافل العربية والقارية والآسيوية!! وهل تصح مقارنة صالات النادي بغرفة في نادي سلحب خرّجت عهد جغيلي، وعدداً من الأبطال الآخرين؟ وهل ميزانية نادي النضال تقارن بما يملكه نادي سلحب.. النادي الريفي الفقير؟!

 

نظرة أخرى

الوجه الثاني للنادي نجد فيه صالتي أفراح، وثلاثة ملاعب سداسية، وصالات مغلقة، وملعب كرة قدم كبير، ومسبح أولمبي، وصالات بلياردو وكمبيوتر وألعاب، ومطاعم وكافتريات ومحلات.. حتى صالات القوة تستثمر، لا بل إنها مزدحمة بالمواعيد، والمفترض أن تكون ذات موارد كبيرة قادرة على صناعة رياضة متطورة منافسة، وأن تخرّج أبطالاً ومواهب ونخباً رياضية، فضلاً عن أنها تقع في موقع مهم مكتظ بالسكان.

نحن دوماً نقول: الاستثمار نعمة، لكن عندما يكون في غير مكانه يصبح نقمة، وعندما لا تستفيد الأندية من الاستثمار يكون وبالاً؛ وعدم الاستفادة هذه تعود إلى أمرين اثنين، لا ثالث لهما:

أولهما أن المستثمرين يأكلون الأخضر واليابس ويسيطرون على كل شيء ويدفعون الفتات للنادي تحت غطاء من سمح لهم بذلك.

وثانيهما أن هناك من يستفيد من الاستثمار لمصلحته الشخصية، فيتم التهاون بالأسعار، فتصبح العائدات ضعيفة وغير ملبية.

وللأسف، هذا الحال لا يقتصر على مثالنا الحالي، بل ينطبق على كل أنديتنا على طول الوطن وعرضه.

 

الإمكانيات الضائعة

عندما نأتي بنادي النضال كمثال، فنحن قصدنا الخوض في الاستثمار بشكل عام، ولا شيء غيره؛ ومن خلال متابعتنا للاستثمار في كل المؤسسات الرياضية، نجد أن الاستثمار لم يؤد دوره الإيجابي ولم يمنح رياضتنا الإمكانيات الجيدة، فتحولت إلى إمكانيات ضائعة تحت غطاء القانون؛ وللأسف، ليس الخطأ بالقانون، إنما بمن سمح للقانون أن يتكيف بما يريده المستفيدون؛ والتكيف كان بالأسعار التي لم تكن مناسبة في الكثير من الأحيان، فذهبت مواقع بمليارات الليرات بأثمان بخسة جداً. وعلى سبيل المثال: حفل، في صالة ما، كانت أجرته وسطياً مئة ألف ليرة، صارت أجرته اليوم أكثر من مليون ونصف المليون كحد أدنى، أي أن المستثمر رفع عائداته بنسبة تجاوزت الـ 15 ضعفاً، فهل رفع المستثمر استثماره للنادي 15 ضعفاً؟

حجة المستثمر برفع أسعاره أن أسعار السوق ارتفعت، والأجور ارتفعت، وكذلك وسائل النقل، وحجة المستثمر بعدم رفع سعر استثماره للنادي أنه موقع عقداً، والعقد شريعة المتعاقدين، ولا يمكن لأحد أن يجبره على تغيير سعره، فالعقد والقانون يحميانه.

والأمر ينسحب على المطعم والمسبح والملاعب المكشوفة والصالات المغلقة والمستودعات، وغيرها من المواقع الاستثمارية، لذلك نجد أن المستثمرين لا يتأثرون بشيء، والخاسر الوحيد هو النادي.

وسمعنا أن أحد الأندية فاوض أحد المستثمرين على رفع قيمة الاستثمار بالتراضي، فوافق – بعد جهد جهيد – على رفع ما نسبته 20%، بينما رفع أسعاره الاستثمارية أكثر من عشرة أضعاف؛ لذلك فإن الإمكانيات المتاحة – بدل أن تصبح إمكانيات جيدة – تحولت بقدرة قادر إلى إمكانيات ضائعة.

 

عكس الاتجاه

الأمور تسير عكس الاتجاه؛ فإذا كانت رياضتنا شعبية جماهيرية، فإننا نجدها قد تحولت إلى مراكز تسوق ومهرجانات، وفقدت الغاية التي من أجلها أقيمت هذه الأندية والمنشآت، ومن يريد أن يتأكد فليقم بزيارة إلى أي ناد ليجد المتسوقين يملؤون كل الأماكن الاستثمارية، سواء المطاعم أو الملاعب أو الصالات.

وإذا كانت رياضتنا احترافية فإننا نجد أنها خاسرة بامتياز، لأن العوائد الطبيعية المفترضة ذهبت إلى غير أصحابها.

وبالمحصلة العامة، فإن هذه المنشآت لم نستفد منها شيئاً على الصعيد الرياضي، ولم تخرّج الأبطال، ولم ترع المواهب، ولم نستفد منها أيضاً على الصعيد المالي، لنرفع مستوى الإمكانيات المفترضة، من إمكانيات متاحة إلى إمكانيات جيدة قادرة على النهوض بالرياضة والعناية بالألعاب الرياضية وأبطالها ومواهبها.

 

خير الكلام

يجب ألا يفهم من كلامنا أننا نقصد نادياً معيناً أو مستثمراً بعينه، فالقضية عامة، وتشمل كل أنديتنا التي تملك استثمارات، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، ويجب أيضاً ألا يفهم من كلامنا أننا ضد الاستثمار.

ما نريده هو تصحيح المسار، وتقويم اعوجاج الناحية الاقتصادية في الأندية، وفتح المجال أمام شراكة حقيقية، فلا نريد أن يخسر المستثمر، ولا نريد أن يضيع حق النادي أمام جشع البعض، أو لنقل – إن أحسنا النوايا – أمام جهل من يقوم بالاستثمار.

هذا الملف نضعه بعهدة القيادة الرياضية لتعيد الحق لأنديتها، عبر طرح موضوع أسعار الاستثمار لتوازي سعر السوق، وهذه الخطوة أكثر من مهمة لأنها تجعل استثمارنا الرياضي بعيداً عن الشبهات، ولأن أنديتنا ستصبح قادرة على رعاية رياضتها وبنائها بالشكل الصحيح.