مجلة البعث الأسبوعية

يعتبرون أنفسهم “مشاريع وزراء” أساتذة الاقتصاد يحاججون الأداء الحكومي بأفكار سرعان ما تتلاشى لدى توليهم المناصب!!

“البعث الأسبوعية” ــ ديانا رسوق

أين تصب جداول الأفكار التي تنبع من العقول الزاخرة بها، والتي نحتاجها كمصل إنقاذ للواقع الاقتصادي الذي نعيش؟ هل تصب في أرض قاحلة جرداء غير مؤهلة إلا لإنبات الصبار، على أمل أن تثمر شجرة الخلاص – ولو بعد حين – سبلاً تنشلنا مما نحن فيه؟ وما هي طبيعة هذه الصحراء التي لا يثمر بها أي عناء أو مجهود؟ ما يجعلنا نعتقد أن هذه الأفكار لا تعدو مجرد خطط على ورق الريح، لن تستطيع الثبات مع كل عاصفة تأتي، في مشهد يوحي بأن هذه العواصف أقوى من جذور شجرتنا التي تصل لأعماق أرضنا التي تحمل على كل غصن أفكار وإبداعات ورؤى، وعلى كل ورقة مخططات يفترض أن تنهض بهذا الواقع الذي فرض.. لتكون النتيجة أن هذه الأفكار الأم التي تحتضنها هذه “الأرض” كطفل رأته بعد أعوام من الانتظار تموت بعد أول شهيق على طاولة النقاش.

 

حقيقة مرة

هذه هي الحقيقة المرة للزخم الهائل من الأفكار والخطط التنموية التي يحاجج بها أساتذة الاقتصاد أداء الحكومة ومؤسساتها التنفيذية، ويدعونها بشكل دائم إلى تصويب مسارات عملها، ولكن عندما يتم وضعهم – أي أساتذة الاقتصاد – على المحك، لدى توليهم أي منصب حكومي، لا نلحظ – بالعموم – أي تغيير يعكس ما كانوا يطلقونه من خطط، ولا يتردد على مسامعنا أي صدى واقعي لما كانوا ينسجون من أفكار ومبادرات، ثبت بالنهاية أنهم غير قادرين على حياكتها.

 

احتمالات

ما سبق يضعنا أمام احتمالات عدة قد تكون هي السبب بعدم تطبيق ما تزخر به جُعب هؤلاء الأساتذة من أفكار ومبادرات، فإما أن للمنصب آثاره الجانبية التي تحول هذه الأفكار والمبادرات إلى رماد منثور، أو أن ما يمتلكونه من إرادة تغيير سرعان ما يصاب بشلل تام بسبب بيئة العمل وما يكتنفها من روتين وبيروقراطية وتشريعات أضحت بحاجة إلى تغيير، أو أن ما يواجههم من قيود، يحبط عزيمتهم ويفقدهم روح المحاولة من جديد، أو أن الأمر مرتبط بالنفوس الرامية إلى تسويق ذاتها من أجل “كرسي”، وبعدها “أنا والطوفان من بعدي”، أو أن هناك أسباباً أخرى غير مرئية، في أفق هذا الواقع، تحقن من يصل إلى المنصب، فيصبح عديم الرغبة بدخول سجل تاريخ هذا الاقتصاد، ووضع بصمته عليه.

 

تشخيص

حاولت “البعث الأسبوعية” تشخيص ما يعتري دعاة الأفكار المبدعة من تعثر إزاء ما يطرحونه من أفكار، وكانت البداية مع الدكتور زكوان قريط (كلية الاقتصاد، جامعة دمشق)، والذي سبق له أن تولى منصب المدير الإداري لمشفى المواساة، إذ بين قريط أن نجاح أساتذة الاقتصاد بمهامهم المختلفة (وزير – مدير عام – مستشار.. إلخ) أمر نسبي، معتبراً أن “النجاح بشكل عام موجود، ولكن بدرجات متفاوتة”، ويعود السبب إلى ظروف العمل التي يعمل بها الأستاذ في المنصب الموكل إليه من ناحية، وإلى شخصية الأستاذ ومدى تعاون الكادر الذي يعمل معه من ناحية أخرى. وركز قريط على مسألة الثقة بالنفس وأهميتها بتحقيق نتائج إيجابية على مفاصل العمل كافة، خاصة وأن كلية الاقتصاد تشكل منهلاً للكثير من الشخصيات التي تبوأت مناصب مهمة على صعيد القطاع العام والقطاع الخاص.

 

فجوة

وعزا قريط الفجوة القائمة بين مقترحات أساتذة الاقتصاد وأفكارهم المبدعة من جهة، وبين الواقع الفعلي من جهة أخرى، إلى مواجهة الكثير من الصعوبات والعقبات، والتي تتصدرها القوانين والتشريعات، كونها تقف عائقاً أمام مقترحاتهم وتطبيقاتها الفعلية، فالأمر بحاجة إلى تضافر الجهود وتعديل بعض الأنظمة والقوانين المعمول بها، والتي أصبحت سائدة وصعبة المواجهة؛ فالدكتور الجامعي الاقتصادي، مثله مثل الطبيب المعالج، يشخص الحالة والمرض ويصف الدواء، ولكن المريض قد يلتزم بتعليمات الطبيب أو قد يهملها.

 

طموح مشروع

في وقت لم يشأ الإفصاح عن الإجابة المتعلقة بمدى نجاح أساتذة الاقتصاد بمهامهم في العمل الحكومي، وصف الدكتور أكرم حوراني، الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، مقولة “إن أستاذ الاقتصاد يعتبر نفسه مشروع وزير” بـ “الطموح”.

وشاطر حوراني قريط الرأي لجهة أن سبب عدم تطبيق ما بحوزة أساتذة الاقتصاد من أفكار على أرض الواقع يعود إلى المشاكل الإدارية والبيروقراطية التي تحول دون تنفيذ هذه الأفكار، مبيناً أن الأخيرة قد تكون جيدة، لكن أدوات التنفيذ قد تكون معيقة، إضافة لوجود صعوبات بتنفيذ تلك الأفكار، فمن الممكن أن تكون القوانين الحالية مثبطة، بالتوازي مع وجود بعض المفاصل الإدارية غير الكفوءة، وبالتالي فإن تطبيق المقترحات والأفكار الجديدة ممكن أن يخفف من صلاحياتها ومكتسباتها.

 

قوانين متراخية

وأوضح حوراني أن بعض القوانين قد تكون متراخية، فالعقوبات في قانون التموين – على سبيل المثال – بسيطة جداً وليست رادعة، وفي حال وجود بعض المقترحات الإصلاحية فإنها لا تنفذ، لأن المستفيدين من المتعدين على القانون يفضلون تحمل الغرامة أو العقوبة كونها بسيطة أو غير رادعة؛ وبهذه الحالة، يجب تغيير بعض القوانين، كما أن المشكلة ليست بمدى صحة الأفكار أو المقترحات، بل بما تعانيه البلاد منذ 10 سنوات: حرب وحصار اقتصادي ظالم وعقوبات دولية شديدة، إضافة إلى صعوبات في الداخل كصعوبة مراقبة الأسواق.

 

لا أدوات مناسبة

وأضاف حوراني أن هناك صعوبات معاشية يتعرض لها المواطن تجعله يعيش حالة توتر مستمرة، فهناك صعوبات في الحصول على مصادر الطاقة ومادة الخبز وهناك ارتفاع أسعار شديد.. إلخ، وهذا كله يجعلنا نعيش ظروفاً غير طبيعية تجعل ردود الأفعال تجاه القوانين لا مبالية، فالإنسان الجائع لا يفكر جدا بالقوانين، وممكن جداً أن يخترق القانون ويتجاوزه. ونوه حوراني إلى أن الاقتصاد السوري كان أقوى اقتصاد عربي قبل الحرب من ناحية الاكتفاء الذاتي، كما كانت سورية من البلدان القليلة بالعالم القادرة على إغلاق الحدود وتأمين متطلبات الاستهلاك بشكل كامل من الإنتاج المحلي، إذ وصلت نسبة الاكتفاء الذاتي إلى حوالى 85%، مشيراً إلى أن الأدوات ضعيفة نتيجة الضغوط المتزايدة على توريد مستلزمات الإنتاج والطاقة؛ وبالتالي، مهما كانت الأفكار جيدة وقيمة، فالظروف الصعبة التي يعيشها البلد لا يمكن أن تتحقق وتعطي ثمارها في ظل عدم توافر الأدوات المناسبة.

 

النتائج تتحدث

المدير العام السابق للمكتب المركزي للإحصاء، الدكتور شفيق عربش، اعتبر أن النتائج تتحدث من تلقاء نفسها عن مدى نجاح أساتذة الاقتصاد بمهامهم في العمل الحكومي، فلو نظرنا إلى الواقع نعرف ما هي النتائج، فهي واضحة جداً؛ ولم ينكر عربش، في هذا السياق، أن آمال وطموح أساتذة الاقتصاد تنحو لاستلام منصب وزاري، معتبراً أنهم يعتمدون في ذلك على مبدأ “ما حدا أحسن من حدا”.

 

“رأس المجتمع”

الدكتور إبراهيم العدي (جامعة دمشق – كلية الاقتصاد) اعتبر أن الجامعة هي رأس المجتمع في جميع الأوقات، والاقتصاد هو جزء من الجامعة، وهذا يعني أن الاقتصاد كفيل بمعالجة القضايا الاقتصادية، وأساتذة الاقتصاد لديهم الخبرة العملية، وأغلبهم درس في الخارج، وبما أن الدكتور لديه رؤية وتجارب وأنشطة وإدارات اقتصادية مختلفة خلال تجاربه في الخارج، فمن الطبيعي أن يكون له دور في الحكومة، فوجود أساتذة الاقتصاد في الوزارات ينعكس إيجاباً على التدريس وليس على العمل الحكومي فقط، نظراً لما لديه من خبرات علمية وعملية تعكس الفائدة على التدريس وعلى العمل الحكومي في آن معاً، ولا سيما أن أغلبهم لم يستقل بعد توليه مناصب حكومية، مشيراً إلى أنه في قسم المحاسبة، في كلية الاقتصاد، هناك معاون وزير ومدراء عامون، وهم بشر قد يصيبون وقد يخطئون، ولكن إن أخطأوا يتم التشهير بهم.

وتحدث العدي عما يواجه أساتذة الاقتصاد من عقبات لدى توليهم مناصب حكومية، مستشهداً بما وصفه “الآلية المعقدة” لقانون الضرائب الحالي، الصادر عام 1949، والساري المفعول إلى الآن، فهذه إحدى ما يواجه المسؤول من عقبات لدى تحصيل الضرائب، أما القوانين والتشريعات فهناك الأجهزة البيروقراطية التي تقاوم الغيير؛ والكثيرون يتمنون التعاون مع الجهات الحكومية، إلا أنهم قد يصطدمون عند وصولهم للوزارة بعقبات تعاكس تطلعاتهم، منوهاً إلى أن طموح الإنسان يكون أحياناً أكبر منه، ولكن امتلاكه للثقافة ودراسة الدكتوراه يقلل من استحالة هذا الطموح. ولم يخف العدي أمنيته أن يصل إلى موقع القرار كل من يستطيع تطبيق ما لديه من رؤى وأفكار استثنائية، وأشار إلى أن كلية الاقتصاد بمثابة “مشفى للاقتصاد”، وأنه يتم معالجة مشاكل الاقتصاد من قبل أساتذة لديهم رؤية.. فيما لو تم الاعتماد عليهم.

 

تساؤل عريض

تساءل الخبير الاقتصادي عامر شهدا: “ترى؟ هل كل من درس الاقتصاد أو حمل شهادة عليا أصبح مؤهلاً لنيل منصب وزاري؟!”.. من وجهة نظره، “الشهادة غير كافية، وهي بحاجة لفكر، وليس أوراق مبورظة بإطار خشبي”، مشيراً إلى أنه إذا ما استعرضنا عمل من تولوا مناصب حكومية ويحملون شهادة دكتوراة بالاقتصاد، منذ عام 2010 إلى اليوم، نجد أن النتائج شبه معدومة.

وبعيداً عن الأزمة التي “أصبحت شماعة للأعذار وتعليق الفشل”، بين شهدا أنه في حال كان لدينا أرضية اقتصادية متينة، واقتصاد مكتمل قوي، لما حلّت علينا كل تلك المشاكل الاقتصادية، والتي تعتبر تراكمات لكثير من وزراء سابقين، مشيراً إلى وجوب اعتماد العمل الحكومي على الفكر المبدع وليس على الشهادة؛ ولخّص شهدا حال الاقتصاد السوري بأنه “يهتم بما تحمله الجدران ويهمل ما تحمله الرؤوس”.

وأضاف شهدا: نحن اليوم نعاني نتيجة استمرارية فكر ونمطية تفكير من اختيار الأشخاص، والدليل على ذلك عدم إرضاء الشعب، معتبراً أن من ينتقي ضعيف الفكر هو أضعف فكراً منه، وشدد شهدا على ضرورة إيجاد آلية لتقييم الوزراء والمدراء العامين أو المسؤولين بشكل عام، ولاسيما لجهة تعاطيهم مع مقتضيات العمل كأصحاب قرار وليس كموظفين عاديين، وهل أتموا مهامهم بالشكل الصحيح، فوجود خلل بالقدرة الشرائية لليرة السورية – على سبيل المثال لا الحصر – يوجب على المركزي أن يتدخل، وأن يعتمد سياسة حماية الليرة السورية، فهذا المثال يحتم أهمية وجود الفكر الاقتصادي.

 

مقاييس نجاح الوزير

وتطرق شهدا إلى مقاييس الوزير الناجح، ووجوب أن يعتمد ميزان المجتمع لتحديد نجاحه من فشله، فإن كان المواطن يعيش من دخله الشهري ويكفيه، فهو وزير ناجح، وإن كان العكس فالوزير فاشل وتصريحاته إحدى نتائج قراراته السلبية؛ كما اعتبر شهدا أن السعي لتحقيق موارد للخزينة من خلال رفع الأسعار هو مؤشر سلبي على الأداء الحكومي.

وأضاف شهدا: “بعض المسؤولين لا يريد تطبيق المقترحات المقدمة إليه لعدم الإضاءة على من قدم لهم هذه المقترحات”، وشدد مجدداً على أن “الشهادة ليست كافية لاستلام منصب، فمن بنى برج ايفل لم يدرس الهندسة، كما أن مستشار شركة اللوتس حالياً، وهي أضخم شركة تأمين بالعالم، درس التمريض؛ وكان هناك في سورية مختص بتسعير الذهب ويشغل منصب معاون مدير عام التجاري السوري!

وأشار شهدا إلى أن سبب عدم تطبيق الأفكار والمقترحات يعود لتضارب بالأفكار مع أشخاص معينين تارة، ولقدم التشريعات والقوانين تارة أخرى، لافتاً إلى أنه في حال كان القانون هو المعيق فإن بوسع الوزير تقديم طلب باقتراح تعديل القانون.

أخيراً.. وأمام هذا العرض، يخشى أن يندثر مشروع الطموح الذي كان يغزي العقول والمخيلات، وأن تطيحه الظروف أرضاً وتحطمه، لكن الأمل يبقى قائماً على تحقيق الحلم، وألا يبقى صعب المنال، بحيث تترجم الخطط القابعة في العقول واقعاً ملموساً يرتوي به اقتصادنا الوطني.