الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الشعر.. لا يفنى!

كنتُ في ملتقى ثقافي ضمّ الكثيرين من أهل الثقافة والإبداع والرأي، وكان الحديث منصبّاً على أسباب تراجع الشعر في الدور والحضور والتعبير، وفي التصدي لاشتقاق الجماليات السحرية التي عُرف بها بوصفه الفن الأدبي الذي اتخذ من المجاز فضاءً.

كثيرة هي الآراء التي حوّمت في دارة النقاش، وكان من أبرزها قولات تراصفت في ضفتين اثنتين، أولاهما: تقول إن الشعر انسحب بعيداً وتراجعت أدواره لأنه ما عاد يعبّر عن الناس، والحياة، والأحلام، وأن الجمال بات في مكان آخر، وثانيهما: تقول الشعر حيُّ، وفن أدبي لا يمكن للأدوار التي خصَّ بها أن تتوارى أو تفنى أو تغيب، ولكنها تكمن، وهذا أمر طبيعي.

ومن الآراء التي قيلت في هذا الأمر إن ثقافة الشاعر اليوم هي ثقافة تخليص الذات من الأسئلة الكبيرة، فالشعراء اليوم، وعبر نظرة عامة، لا يحملون شهادات عالية، ولا يطاردون الكتب أو يجالسونها، وإن حلقات التصفيق والإعجاب حالت دون أن يتحقّق الواحد منهم من وجود الموهبة التي بين جنبيه، وإن الأمزجة هي التي تتحكّم بنصوصهم، وإن الإغراءات البادية، هنا وهناك، تغرّر بهم، وهي إغراءات، لو يعلمون، خلبية وأكثر.

ولأن الأفكار كانت كثيرة، والآراء قاربت الانفعال والغضب والتمترس وراء دشم الكلام الذي لا يصير دروساً إلا بالكثير من الفطنة، فإن نتائج الحوار لم تقرّ على مشتركات مهمّة.

والحق أن أجناس الأدب، ومنذ بدت للعيان كتابةً، وتجارب وأدواراً كانت في تدافع ومناددة، وهذا أمر مشروع، فلو عدنا إلى عقود القرن العشرين المنصرم لوجدنا أن الرواية لم تلعب دوراً مهمّاً في النصف الأول من هذا القرن، وكانت أشبه بالأمر العادي الذي لا يُدهش، ولا يستحوذ على الأسئلة والأضواء والمعروفية مثلما هي في أيامنا الراهنة، وكان الشعر في الصدارة، لا بل كان مرجعية الفنون الأدبية كلّها، ثم تقدم فن القصة القصيرة، ثم تأخر وتوارى.. ولهذا فإن أيّاً من أجناس الأدب لا يموت ولا يفنى وإن تراجعت الأضواء عنه، وإن شوّهت صورته بعض الارتكابات المجانية التي لم تعرف طعوم الموهبة؟!.

إن الشعر، وسائر فنون الأدب، لا تحتاج إلى الشهادات العالية وإن وجدت، أعني وإن حازها الشاعر، لأن غايات الشهادات العالية ليست هي غايات الشعر، وقد لا تلتقي هذه أو تلك ولو في مصادفة عابرة، الشعر موهبة، والشهادة تحصيل، ولكنهما تحتاجان إلى الشغف، ومن دونهما سيصير المعنى أشجاراً شوكية، كثيرون لم يعرفوا الشهادات العالية، وأقل من العالية، لكنهم كانوا شعراء برتبة (رائع) كما يقول هيغل، وفي الفنون عامة لا يسأل أحدٌ عن الشهادة التي يحملها الفنان التشكيلي المدهش، ولا الشاعر الذي يكتب نصوصاً جمارها وهّاجة، ومجازها مدوّخ، ومبانيها فتّانة مثل غناء القصب حول ضفاف الأنهار، السؤال عن الشهادة سؤال ينهض في مكان آخر ليس مكانه الشعر.

وتقدّم الرواية اليوم لا يعني سوى أمر واحد هو أن الرواية باتت دارة الهدأة للقارئ ليجول في عالم التأمل، تأمل الماضي/ التاريخ، ومعرفة منابت العزة والكرامة، وصلادة الجدران، ووسع ساحات الإخلاص والمحبة، والدنو من عالم النداوة المنتظرة للضوء والشروق، وكذلك التأمل في جولان الحياة وهي تركض لاهثة في دروب كثيرة في وقت واحد، والتأمل أيضاً بالقادم من الأيام إن كانت ستُآخي الأحلام، التأمل هو موضوعة الرواية الجوهرية الذي يمكّن المرء من إفلات عنقه من النير الذي حزَّ خيط الحياة.

أما عودة الشعر عن مكانته، فهذا كلام ليس مضيئاً، لأن الشعر لم يغادر مكانته لدى أهله من الشعراء؛ والتجارب معروفة، والأسماء منقوشة في أرواحنا، والقصائد الظافرة هي كتبنا الراشدة إلى المجد والجمال والحياة معاً.

حسن حميد

Hasanhamid55@ yahoo.com