كيف قاد جنرال أمريكي سلسلة من التحركات البيروقراطية والعلاقات العامة لقيادة الحلقة الأخيرة من التوترات مع إيران؟!
“البعث الأسبوعية” ــ تقارير
خلال الشهرين الأخيرين من إدارة ترامب، أثارت سلسلة من التحركات العسكرية الأمريكية الاستفزازية في الشرق الأوسط مخاوف من أن الحرب ضد إيران كانت على وشك الانفجار. لم تكن أجواء الأزمة ناتجة عن أي تهديد تشكله طهران، بل نتاج حملة شخصية “اخترعها” قائد القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” ((CENTCOM، الجنرال كينيث ف. ماكنزي جونيور، لتعزيز مصالحه الشخصية؛ ففي محاولة منه للحصول على المكانة والسلطة داخل الجيش، والتأثير على صناعة السياسة التي تضمن نفوذه ومصالحه، عمل ماكنزي على تكديس العتاد العسكري. كان تعطش الجنرال للتأثير عامل دفع في الحلقة الأخيرة من التوترات الأمريكية الإيرانية؛ وفي سبيل تعزيز أجندته الذاتية، لفّق سلسلة مدروسة بعناية من التحركات السياسية البيروقراطية، جنباً إلى جنب مع دفع حملة علاقات عامة في وسائل الإعلام. ويعتبر ماكنزي، وهو جنرال من أربع نجوم عمل سابقاً مديراً لهيئة الأركان المشتركة في البنتاغون، القائد الأكثر ذكاءً سياسياً لقيادة “سنتكوم”، وفقاً للصحفي مارك بيري. كما أظهر وقاحة استثنائية في التآمر للدفاع عن مصالحه.
فور توليه قيادة “سنتكوم”، في آذار 2019، أطلق ماكنزي حملته للتلاعب السياسي. ومن خلال طلب قوات إضافية لاحتواء “تهديد إيراني” مفترض، دفع باتجاه إرسال مجموعة حاملة طائرات هجومية وقاذفات إلى الشرق الأوسط. وبعد شهر، قال للصحفيين إنه يعتقد أن عمليات الانتشار كان “لها تأثيرها الجيد للغاية على الاستقرار”، وأنه كان بصدد التفاوض على وجود عسكري أمريكي أكبر وطويل الأمد.
نتيجة لمناوراته، نجح ماكنزي في الحصول على ما بين 10 آلاف إلى 15 ألفاً من القوات الإضافية، وبذلك وصل المجموع في عالم القيادة المركزية إلى أكثر من 90 ألفاً. تم الكشف عن الزيادة السريعة في العتاد الموضوع تحت إمرته خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، في آذار 2020؛ وخلال الفترة المتبقية من العام نفسه، تم نقل بعض هذه القوات إلى شرق آسيا وأوروبا، بما يتماشى مع أولويات البنتاغون الجديدة بشأن “منافسة القوى الكبرى”. كان تصميم ماكنزي على مراكمة العتاد العسكري عاملاً حاسماً في “فبركة” وتصنيع الأزمة الأخيرة مع إيران.
قاتل ماكنزي للإبقاء على الآلاف من الجنود الأمريكيين في العراق، ظاهرياً لمحاربة داعش، ولكن أساساً للحفاظ على وجود عسكري طويل الأمد هناك. لكن الوجود العسكري الأمريكي لا يحظى بشعبية كبيرة في العراق، ففي كانون الثاني 2020، بعد اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني، أصدر المجلس التشريعي العراقي قراراً يطالب بانسحاب جميع القوات الأمريكية من البلاد.
في غضون ذلك، صعدت المقاومة العراقية هجماتها على القوات الأمريكية، بدءاً بهجوم صاروخي كبير على “قوات التحالف” في معسكر التاجي، في آذار 2020، ماأسفر عن مقتل جنديين أمريكيين. استغل ماكنزي الهجوم لاستعادة بعض العتاد الذي فقده، ونجح في طلب بقاء مجموعة حاملة طائرات ضاربة ثانية في المنطقة. ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فقد طالب ماكنزي بإرسال قوات إضافية “للإشارة إلى طهران بأنها ستتحمل المسؤولية” إذا ما استمرت المقومة العراقية في مهاجمة القوات الأمريكية. لكن سرعان ما تبين أن هذه المناورة كانت فاشلة: فقد تصاعدت الهجمات العراقية، واضطر ماكنزي للبدء بالانسحاب من قواعده وتسليمها إلى القوات العراقية. وفي أيلول، اعترف، أثناء إعلانه خفض القوات في العراق من 5200 إلى 3000، أن الهجمات كانت سبباً رئيسياً للانسحاب.
بعد قرار ترامب، منتصف تشرين الثاني، خفض عديد القوات في أفغانستان والعراق إلى 2500 جندي، بنى ماكنزي وحلفاؤه في واشنطن وهم وجود أزمة مع إيران من خلال الترويج لفكرة أن إيران ربما تخطط لشن هجمات على القوات الأمريكية.
في 16 من الشهر نفسه، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن المسؤولين الأمريكيين “قلقون بشكل خاص بشأن 3 كانون الثاني، ذكرى الضربة الأمريكية التي قتلت سليماني..”؛ أما صحيفة “واشنطن بوست”، فقد نقلت، في اليوم التالي، عن “مصادر مطلعة” قولها إن المخابرات الأمريكية كانت مؤخراً “ترصد التهديدات المحتملة من إيران ضد القوات الأمريكية في المنطقة”؛ وتبعت ذلك خطوة أكثر خطورة: في 21 تشرين الثاني، طارت قاذفتان استراتيجيتان من طراز “بي-52 “مباشرة من الولايات المتحدة إلى الخليج العربي. وأعلن المتحدث باسم القيادة المركزية عن الرحلة في بيان لم يقدم فيه أي تبرير محدد، كما أعلن أن اغتيال سليماني عجل بنشر آخر رحلات طويلة المدى من طراز “بي-52 “إلى الخليج، ما خلق إحساساً بأن الرحلات الجديدة مرتبطة بأزمة عسكرية محتملة. في الواقع، قامت القاذفتان برحلة ذهاباً وإياباً من قاعدتهما الأمريكية إلى الخليج والعودة دون توقف.
في 7 كانون الأول، عاد ماكنزي إلى هجوم العلاقات العامة، وتحدث إلى مجموعة صغيرة من المراسلين الذين سُمح لهم بتعريفه فقط على أنه “مسؤول عسكري أمريكي كبير على اطلاع بالوضع في المنطقة”؛ ووفقاً لوكالة “أسوشيتيد برس” وشبكة “إن بي سي نيوز”، قال إن خطر سوء التقدير من قبل إيران “أعلى.. الآن”، بسبب سحب الولايات المتحدة لقواتها من المنطقة، والانتقال الرئاسي الأمريكي، ووباء كورونا، والذكرى السنوية لـ “مقتل” سليماني. وأكد أن القادة العسكريين قرروا أن الحاملة نيميتز يجب أن يبقى في المنطقة “لبعض الوقت في المستقبل”، وأنه قد تكون هناك حاجة أيضاً إلى سرب طائرات مقاتلة إضافية.
بعد ثلاثة أيام، طار سرب آخر من طائرات “بي-52 “من الولايات المتحدة إلى الخليج، وحلّق بشكل استفزازي بالقرب من المجال الجوي الإيراني قبل العودة إلى قاعدته. بعدها، في 21 كانون الأول، أعلنت البحرية الأمريكية أن غواصة الصواريخ الموجهة “يو إس إس جورجيا”، إلى جانب طرادات صاروخية موجهة، عبرت للتو مضيق هرمز ودخلت الخليج العربي. كان هذا الإعلان غير عادي للغاية: صرحت البحرية، التي عادة ما تلتزم الصمت بشأن تحركات سفنها، علناً، أن “جورجيا” يمكن أن تحمل ما يصل إلى 154 صاروخاً من طراز توماهوك.
في مقابلة مع “إي بي سي نيوز”، في 22 أيلول، سُئل ماكنزي عن خطر هجوم إيراني على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، فردّ قائلاً: “أعتقد أننا لا نزال في فترة من المخاطر المتزايدة”، على الرغم من أنه أشار أيضاً إلى أن إيران لا تريد الحرب مع الولايات المتحدة.
تم إرسال رحلة ثالثة من طائرات “بي-52” إلى الخليج العربي، في 30 أيلول؛ وهذه المرة، نقلت القيادة المركزية الأمريكية عن ماكنزي مباشرة: كانت نيتها “توضيح أننا جاهزون وقادرون على الرد على أي عدوان موجه ضد الأمريكيين أو مصالحنا”.
في وقت لاحق، قال “ضابط عسكري كبير” لوكالة “أسوشيتد برس” أن “من المفترض أن تكون المخابرات الأمريكية رصدت مؤشرات على أن أسلحة متطورة تتدفق من إيران إلى العراق مؤخراً”. وقيل إن ذلك يشير إلى التخطيط لهجمات صاروخية محتملة ضد المصالح الأمريكية في العراق، بالتزامن مع ذكرى استشهاد سليماني. ورددت “سي إن إن” مزاعم البنتاغون بأن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى العراق، وأن ما أسمته “الميليشيات” العراقية كانت “تخطط لـ “هجمات معقدة”.
لكن “مسؤولاً عسكرياً كبيراً” شارك بشكل مباشر في المناقشات حول تلك القضايا أصر لـ “سي إن إن” على أن المسؤولين الذين تعمدوا نشر مثل هذه التقارير كانوا يبالغون عمداً في التهديد بشن هجوم. وأشارت “سي إن إن” إلى أن قرار وزير الدفاع بالوكالة، كريستوفر ميللر، في 30 أيلول، بإعادة “نيميتز” كان بناءً على اعتقاده أن ماكنزي وحلفاءه كانوا يبالغون بشأن هجوم إيراني محتمل, وفي النهاية، اضطر ميلر إلى التراجع عن قراره والإبقاء على نيميتز في الشرق الأوسط – وهو فوز مهم لماكنزي. وعلى الرغم من أن الذكرى السنوية لاغتيال سليماني جاءت وذهبت دون وقوع حوادث، إلا أنه تم تنفيذ رحلة أخرى لطائرات “بي-52 “، في 7 كانون الثاني، شكلت عرضاً جريئاً لانتصار ماكنزي على ميلر.
يشير الصراع السياسي البيروقراطي على السلطة الذي اندلع في الأسابيع الأخيرة من إدارة ترامب إلى أن قوة ماكنزي ومصالحه من المرجح أن يكون لها تأثير كبير على سياسة إدارة بايدن تجاه إيران. ولا يزال ماكنزي يقاوم نقل العتاد العسكري بعيداً عن الشرق الأوسط، وسيكون لديه دوافع قوية لمعارضة وعرقلة أي جهد لتخفيف التوترات مع طهران. ولتحقيق أهدافه ستكون علاقته بالاستخبارات العسكرية ووسائل لإعلام من أكثر الأسلحة فائدة في ترسانته.