دراساتصحيفة البعث

سورية ومؤامرات البيت الأبيض.. سياسة تائهة لبيروقراطية الصقور

علي اليوسف

في أيلول 2020، ظهرت ما يسمى فرقة “حمزة” -وهي مجموعة إرهابية تابعة للنظام التركي- في منطقة ناغورنو كاراباخ، وقد أفادت عدة مصادر مختلفة أنه تمّ عرض 1500 دولار شهرياً على هؤلاء المرتزقة للقتال من أجل أذربيجان ضد أرمينيا في الحرب الحدودية بين البلدين على تلك المنطقة المتنازع عليها.

يمتلك سيف بولاد متزعم فرقة “حمزة” ماضياً خطيراً، فهو خدم كقائد في جماعة إرهابية مدعومة من وكالة المخابرات المركزية، وظهر في دعاية مؤيدة لـ”داعش”، وتدرّب مع الجيش الأمريكي، وقاتل جماعات مسلحة إرهابية أخرى تدعمها الولايات المتحدة في سورية، نيابة عن حكومة النظام التركي، والآن يساعد جمهوريتين سوفيتيتين سابقتين في قتال بعضهما البعض من أجل المال. قصة بولاد هي رمز لسياسة الولايات المتحدة تجاه سورية، وخاصة خلال إدارة أوباما، فقد ركزت وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية على إسقاط الدولة السورية عبر دعم المجموعات الإرهابية، بينما كان الجيش الأمريكي يدّعي أنه يحاول القضاء على الإرهابيين المتطرفين مثل “داعش”.

دونالد ترامب -الرئيس الأمريكي السابق- ورث هذه السياسة، وبدلاً من حلها أضاف عليها عناصر جديدة من الفوضى. ففي البداية زعم أنه يريد إنهاء “الحروب التي لا نهاية لها”، وادّعى أنه مستعد لسحب القوات الأمريكية من سورية في أول فرصة، لكنه استعان بمجموعة من المستشارين الصقور الذين فكروا في سورية على أنها ساحة معركة لاستنزاف إيران وروسيا.

في عامي 2018 و2019، أمر ترامب القوات الأمريكية بالخروج من سورية، لكنه تراجع عن القرار في المرتين. وهنا يقول آرون شتاين، مدير الأبحاث في معهد أبحاث السياسة الخارجية: “لم يكن ترامب قادراً على إعادة القوات الأمريكية إلى الوطن، لأن بيروقراطيته الخاصة تقاومه”، ما يعني أن سياسة الولايات المتحدة ساعدت في إطالة أمد السورية، وترك ملايين السوريين تحت رحمة مؤامرات البيت الأبيض، ولهذا سيتعيّن على الرئيس المنتخب جو بايدن إيجاد طريقة لإخراج الولايات المتحدة من سورية دون إعادة إشعال الحرب أو الانزلاق مرة أخرى.

دعم الإرهابيين لإسقاط الدولة الوطنية

دعمت الولايات المتحدة الإرهابيين في سورية منذ عهد إدارة أوباما، ونتيجة ذلك أدى التدخل الأمريكي إلى صراع دولي استمر سنوات. يعود العداء الأمريكي ضد سورية إلى عقود، بسبب مواقف سورية الثابتة لجهة التحالف مع روسيا وإيران، ودعم المقاومة في المنطقة. لكن التدخل الأمريكي المباشر في السياسة الداخلية السورية بدأ مع ما يُسمّى “الربيع العربي”، ففي آب 2011 فرض باراك أوباما عقوبات اقتصادية تحظر تقريباً جميع أنواع التجارة مع سورية. كانت إدارتا جيمي كارتر وجورج دبليو بوش قد فرضتا في السابق بعض العقوبات على الحكومة السورية، لكن العقوبات الجديدة وضعت البلد بأكمله تحت الحصار. واصطفّت دول أخرى بقوة أكبر وراء الإدارة الأمريكية، وأرسلت مملكة آل سعود أسلحة للإرهابيين، وكذلك فعلت مشيخة قطر والنظام التركي.

في عام 2013، أعطى أوباما وكالة المخابرات المركزية الضوء الأخضر للانضمام إلى تسليح الإرهابيين في سورية مباشرة، رغم أنه لا تزال تفاصيل كثيرة عن برنامج “Timber Sycamore”  سرية. يزعم روبرت فورد، مبعوث الولايات المتحدة في سورية، أن برنامج الأسلحة الأمريكي لم يكن عاملاً حاسماً، وتبيّن أن التوقعات غير صحيحة بعدما بدأت إيران إرسال مستشارين عسكريين، ومشاهدة الطائرات الروسية تحلّق في سماء سورية أواخر عام 2015. يقول فورد: “لقد ارتكبنا خطأ تحليلياً فظيعاً، لقد سمحت الفوضى للأصوليين بأخذ دور بارز، قاتل المسلحون السوريون الذين تمّ دعمهم من قبل الولايات المتحدة إلى جانب الجماعات الإرهابية”.

لقد أنفقت الإدارة الأمريكية 500 مليون دولار على برنامج لتدريب وتجهيز جيش جديد من المقاتلين الموالين لأمريكا. كانت النتائج كارثية، إذ سرعان ما هُزمت الدفعة الأولى من المقاتلين وسرقتها “القاعدة” في تموز 2015، بينما واصل خريجو البرنامج الآخرون، بما في ذلك فرقة “حمزة”، القتال كمرتزقة في جميع أنحاء المنطقة، وظهروا في نهاية المطاف في ناغورنو كاراباخ.

لقد أطلق أوباما تدخلين في سورية، الأول وهو محاولة إسقاط الدولة السورية عبر دعم الإرهاب، والتي فشلت فشلاً ذريعاً. والثاني، تشديد العقوبات غير الشرعية واالاإنسانية على سورية.

ترامب يرث التركة

ربما يكون ترامب قد انتقد تدخلات أمريكا في الخارج خلال انتخابات 2016، لكن إدارته تابعت السيناريو حيث توقف أوباما. ظل المبعوث السابق للشرق الأوسط بريت ماكغورك الرجل الرئيسي للبيت الأبيض للعمليات العسكرية في سورية والعراق، ووقّع ترامب خريطة الطريق الخاصة به، مع بعض التعديلات، أهمها دعم ما يُسمّى “وحدات حماية الشعب”، حيث تدفقت الأسلحة الأمريكية إلى ميليشيات “قسد”، وانضم نحو 400 من مشاة البحرية الأمريكية إلى الخطوط الأمامية في الرقة، وهو أول وجود أمريكي على الأرض في سورية.

أعلنت إدارة ترامب الانتصار على “داعش” في الرقة في تشرين الأول 2017، وانتقلت إلى ريف محافظة دير الزور الغنية بالنفط. في هذه الأثناء احتلت تركيا منطقة عفرين السورية في كانون الثاني 2018، ووصف المسؤولون الأمريكيون دخول تركيا بأنه “إلهاء”، لكن أصبح الصراع بين نظام أردوغان وميليشيا “قسد” فيما بعد مصدر إزعاج كبيراً للولايات المتحدة.

في نيسان 2018، عيّن ترامب جون بولتون الصقر مستشاراً للأمن القومي، وقام بترقية مدير وكالة المخابرات المركزية مايك بومبيو إلى منصب وزير الخارجية. كلاهما رأى إيران وليس “داعش” على أنها أكبر عدو لأمريكا في الشرق الأوسط، وعليه تمّت حملة “الضغط الأقصى” بهدف دحر إيران من المنطقة.

عيّن بومبيو اثنين من الصقور مسؤولين عن السياسة في سورية، وهما جيمس جيفري، المحارب البارد المخضرم الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في كلّ من تركيا والعراق، وجويل ريبيرن، وهو ضابط متقاعد بالجيش ساعد في تقديم المشورة للجيش الأمريكي في العراق. دعم جيفري أوهام “قسد” الانفصالية، وطلب منهم الاعتماد على الحماية الأمريكية.

بحلول عام 2018، كان النظام التركي غير راضٍ عن القوة المتنامية لميليشيا “قسد”، التي اعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني. اتصل رجب طيب أردوغان بـ ترامب على الهاتف ليشتكي من ذلك في كانون الأول 2018. وافق ترامب، الحريص على الوفاء بوعد حملته الانتخابية بإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن، على سحب القوات الأمريكية من سورية، مما ترك تركيا حرة في الاحتلال. فجّر ذلك القرار قنبلة داخل الإدارة، وشعر العديد من المسؤولين بالذهول من الإعلان المفاجئ والقلق، ونتيجة ذلك استقال ماكغورك بسبب الإحباط، وكذلك فعل وزير الدفاع جيمس ماتيس، لكن بولتون، وبومبيو، وجيفري، وريبيرن بقوا.

بدأ هؤلاء الصقور العمل على اتفاقية تُسمّى “المنطقة الآمنة”، وهو مشروع يتيح للجميع الحصول على كعكة وأكلها أيضاً. كتب بولتون لاحقاً في مذكراته: “بينما كنا نلعب بهذه السلسلة، أو طورنا فكرة أفضل، والتي قد تستغرق شهوراً، كانت لدينا حجة جيدة للحفاظ على القوات الأمريكية”. وأضاف أنه كان يأمل في أن يؤدي “النقل المنظم للسلطة” من القوات الأمريكية إلى القوات التركية إلى منع الجيش السوري من استعادة شمال شرق سورية. وأخيراً اتفقت تركيا والولايات المتحدة على صفقة في آب 2019، وفككت “قسد” تحصيناتها على طول الحدود مع تركيا.

كان مستشارو ترامب يأملون في أن يتمكّنوا من إبقاء القوات الأمريكية في سورية دون إغضاب نظام أردوغان. كل ذلك بينما كان يبدو وكأنهم يعيدون القوات الأمريكية إلى الوطن. وفي مقابلة أجراها مع DefenceOne بعد فترة وجيزة من استقالته من وزارة الخارجية بعد انتخابات عام 2020، اعترف جيفري بأنه كان “يمارس لعبة القذيفة حتى لا يوضح للقيادة الأمريكية عدد القوات الموجودة في سورية”. كجزء من هذا الجهد، ضغط القادة العسكريون الأمريكيون وبولتون لإخفاء عدد القوات الأمريكية في التنف. صحيح أن ترامب أراد الخروج من سورية، لكن بدلاً من تنظيم انسحاب منظم، حاول مستشاروه إبعاد مشهد المعركة ضد سورية عن أعين الجمهور الأمريكي.

في غضون ذلك، كان أردوغان يحثّ علناً على توسيع “المنطقة الآمنة”، وقد حصل على رغبته وأكثر خلال مكالمة في 6 تشرين الأول 2019 مع ترامب، عندما أعطاه الرئيس الأمريكي الضوء الأخضر لغزو سورية على الفور، وما زال مجهولاً ما قاله الزعيمان بالضبط، لكن البيت الأبيض أعلن بعد ذلك مباشرة أن “تركيا ستمضي قريباً في عمليتها المخطّط لها منذ فترة طويلة في شمال سورية”، وبعدها فكّكت القوات الأمريكية التحصينات المضادة للدبابات لقوات “قسد” كجزء من اتفاق المنطقة الآمنة، واستقبلت الولايات المتحدة الدبابات التركية والمرتزقة الإرهاببين المدعومين من تركيا.

كتبت إيمي أوستن هولمز، من مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين، من سورية: “التقيت بالعديد من الأشخاص الذين نزحوا عندما غزت تركيا في تشرين الأول 2019 وألقيت باللوم شخصياً على ترامب”. كانت إدارة ترامب على استعداد للسماح لتركيا بغزو شمال سورية، لأن الإدارة لم ترغب في أن يلجأ الأكراد السوريون إلى المصالحة مع الدولة السورية.

نظرياً وقّعت “قسد” “مذكرة تفاهم” مع الحكومة السورية بعد فترة وجيزة طالبوا فيها بدخول الجيش العربي السوري لحماية المنطقة من الغزو التركي، لكن تمكّنت إدارة ترامب من إفشال الاتفاق، وبدلاً من التخطيط لانسحاب أمريكي منظم، حاول مستشارو ترامب استخدام “قسد” كأداة ضد الدولة السورية.

خطة سرقة النفط وقطع الطرق الإستراتيجية

كان قرار سحب ترامب للأمريكيين من سورية بعد اتفاقه مع أردوغان قصير الأجل، فقد عادت القوات الأمريكية للانتشار في نهاية المطاف، بما في ذلك في المناطق القريبة من الحدود التركية، وهنا زعم ترامب أن مهمتهم كانت “أخذ النفط” أو حراسة “منطقة النفط”.

استغل السيناتور ليندسي غراهام (جمهوري) وغيره من الصقور الوعد بأرباح النفط لبيع ترامب بشأن خططهم لإبقاء القوات الأمريكية في المنطقة. لكن النفط الفعلي في المنطقة لا يساوي الكثير. كان إنتاج النفط السوري يتراجع حتى قبل الحرب عليها، وكان تنظيم “داعش” في ذروته يكسب فقط 1.5 مليون دولار في اليوم من آبار دير الزور، بحسب الصحافة الأمريكية. ما يعني أن المهمّ هو الموقع الاستراتيجي لـ دير الزور، ومن خلال الاحتفاظ بهذه “المنطقة النفطية” وكذلك القاعدة الأمريكية في التنف، يمكن للقوات الأمريكية محاصرة محور المقاومة.

ولجعل الأمور أكثر تعقيداً، يُحظر على الشركات الأجنبية التعامل مع النفط بموجب العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية. وفي نيسان 2020 بدا الوضع وكأنه قد تغيّر عندما أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية إعفاءً من العقوبات الخاصة لشركة غير معروفة تدعى Delta Crescent Energy. ثم التقى جيفري وريبيرن مع سياسيين في شمال العراق المجاورة لمناقشة فتح طريق لشركة “دلتا كريسنت إنرجي” لتصدير النفط، وفق ما ذكرت صحيفة “نيو ريبابليك” لاحقاً.

أدّت القرارات السيئة إلى الوضع الحالي، وواصل مسؤولو الأمن القومي الدفع بأهداف كبيرة حتى مع انهيار النفوذ الأمريكي. قال جيفري في حدث في أيار 2020 في معهد هدسون: “هذا ليس مستنقعاً، ومهمتي هي أن أجعلها مستنقعاً للروس. وأشاد بـ الجمود الذي تمّ وضعه باعتباره خطوة إلى الأمام في المنطقة”.

كما أوضح ريبيرن في حدث أقيم في حزيران 2020 واستضافه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يعتقد مسؤولو ترامب أن بإمكانهم استخدام العقوبات لحرمان الدولة السورية من الوصول إلى الأسواق المالية الدولية حتى يتمّ التوصل إلى حل سياسي. لكن فورد -المبعوث الأمريكي السابق الذي تعلّم بالطريقة الصعبة أنه من غير المرجح أن تتخلّى إيران وروسيا عن دعم سورية- يشك في أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية ستكون كافية للضغط لقبول أي شيء. يقول: “أعتقد أننا نحاول أن نفعل شيئاً بأدوات لن تحقق النتائج التي نريدها”.

إدارة بايدن

ألقى أنطوني بلينكين، مرشح الرئيس المنتخب لمنصب وزير الخارجية، خطاباً أمام مجموعة ميريديان في أيار 2020 حدّد سياسته تجاه سورية. وقال: “على أيّ منا -وأنا أبدأ بنفسي- من كان يتحمّل أي مسؤولية عن سياستنا تجاه سورية في الإدارة السابقة أن يعترف بفشلنا”، “لقد فشلنا في منع الخسائر المروعة في الأرواح، فشلنا في منع النزوح الجماعي للناس، داخلياً في سورية، وبالطبع في الخارج كلاجئين.. إنه شيء سأحمله معي لبقية أيامي”.

زعمَ بلينكين أن الولايات المتحدة لا تزال لديها “نقاط نفوذ”، بما في ذلك القوات على الأرض بالقرب من المناطق الغنية بالنفط، والقدرة على حشد الموارد لإعادة إعمار سورية، مما قد يؤدي إلى نتائج أفضل في المرة القادمة.

لقد أُعجب فورد مؤخراً بكتابة روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي خلال حرب فيتنام، والذي أصبح فيما بعد ناقداً للجهود الحربية. يقول فورد: “كانت فيتنام مشكلة لم نتمكن في النهاية من حلها”، “هذا نوع مما نحن فيه مع سورية الآن”!.