دراساتصحيفة البعث

المنافسة الناعمة بين طرفي المشهد السياسي في أمريكا

د. معن منيف سليمان 

اهتزّت صورة الولايات المتحدة الأمريكية الداخلية، ولاسيما بعد سلسلة الأحداث التي وقعت مؤخراً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتركت شروخاً وتصدّعات في المجتمع الأمريكي، ستثقل كاهل الرئيس جو بايدن الذي بات عليه تحمّل عبء مسؤوليات كبرى على مدار السنوات الأربع المقبلة، ليس فقط لرأب الصدع، وبلاده تعاني من توتر عرقي شديد وانقسام حاد في الرأي، إنما لتضميد جراح البلاد أيضاً من الأزمات الاقتصادية والصحية الحادّة التي تعيشها الولايات المتحدة منذ بدء انتشار فيروس كورونا، وبالتالي فإن ترميم صورة أمريكا الداخلية يحتاج إلى الكثير من العمل الطويل في ظل تحديات جديدة وخطيرة. فهل ينجح بايدن في إنهاء حالة الانقسام الداخلي؟.

في ظل أحداث الفوضى غير المسبوقة التي بدأت مع انتهاء الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني الماضي، وما تلاها من عمليات فرز أصوات، ولجوء ترامب إلى المحاكم بدعوى عدم نزاهة الانتخابات، مروراً بإقرار المجمع الانتخابي بفوز بايدن. بلغت الأمور ذروتها من خلال المشهد العبثي يوم 6 كانون الثاني الماضي في أثناء المصادقة على نتيجة الانتخابات في مبنى الكونغرس، حين اقتحم أنصار ترامب مبنى الكابيتول وراح ضحية أعمال العنف التي وقعت خمسة أمريكيين بينهم رجل أمن، ما شكّل صدمة قوية.

لقد تحوّلت المنافسة الناعمة بين طرفي المشهد السياسي في أمريكا، إلى انقسام حادٍّ أعطى خلال الأسابيع الماضية صورة غير مسبوقة للمجتمع الأمريكي، وخلَّفَ تحديات كبرى تقع على عاتق بايدن، الذي دخل البيت الأبيض مواجهاً تركة صعبة خلفها سلفه ترامب، وملفات معقدة على المستويات كافة، على الصعيد الداخلي.

واللافت أن الانقسام الذي تسعى إدارة بايدن لمواجهته ضمن الملفات ذات الأولوية القصوى بعد التطورات الأخيرة، تتقاسم مسؤوليته ليست قوى اليمين المتطرف وتيارات اليسار، إنما دخلت على الخط بعض قوى الاعتدال في الحزبين الديمقراطي والجمهوري. إضافة إلى ذلك، فقد شكّل النزاع العرقي عاملاً مهماً في الانقسامات السياسية والثقافية الواسعة في الولايات المتحدة، وهو النزاع الذي تعود جذوره إلى حقبة العبودية والحرب الأهلية الأمريكية. والواقع أن المشكلات العرقية لم تختفِ أبداً حتى بعد منح الأمريكيين الأفارقة حقوقهم المدنية، وهو ما جعل فئة من المؤمنين بتفوق العرق الأبيض تتشبث بترامب وتدعمه بكل حماسة.

إن الولايات المتحدة اليوم بلد يوجد فيه ملايين الأشخاص مقتنعون بأن الرئيس الجديد لم يُنتخب بشكل شرعي، والكثير منهم مسلحون ويبدو أنهم عازمون على اللجوء إلى إجراءات متطرفة لتحقيق مطلبهم، حيث أقنع ترامب ملايين الأشخاص بأن الانتخابات مزوّرة، وباتت الانقسامات الداخلية في المجتمع الأمريكي التهديد الأول للأمن القومي اليوم.

عُرف الرئيس الأمريكي السابق ترامب منذ توليه مقاليد البيت الأبيض بالكذب والتعامل النسبي مع الحقيقة، فروَّج لخطاب عنصري، وأجَّج الصراع الإثني والثقافي داخل المجتمع الأمريكي، ولم يكترث بالخبراء والعلماء، لا في كيفية إدارته لشؤون الحكم والدولة، ولا في تعامله مع وباء كورونا.

لقد قدَّم نفسه كممثل لمصالح الخاسرين في المجتمع الأمريكي، والأمين عليها، والمنقلب على التقاليد السياسية، فتمكّن من إحكام قبضته على الحزب الجمهوري، وعزَّز من انقسام المجتمع الأمريكي، وربما دفع نحو ديمومة هذا الانقسام لمدّة أخرى من الزمن، قد تطول. ولكن الاضطراب الذي صنعه في واشنطن وفي أركان المجتمع الأمريكي، إضافة إلى هشاشته الأخلاقية، كانا القوة الدافعة خلف انتصار حملة بايدن الانتخابية، على الرغم من أن برنامجه لم يرتكز سوى إلى أحاديث عامة حول استعادة وحدة المجتمع، والاحترام لموقع الرئاسة، ومواجهة الوباء كما ينبغي.

كل ما سبق دفع قيادات في الحزب الديمقراطي للمطالبة بعزل ترامب، التي ستشكّل تحدياً آخر للوحدة الوطنية، وستُبقي تلك المحاولة اسم ترامب في الأخبار لأسابيع، حيث سيقف المدافعون عنه إلى جانبه، فيما سيدعو خصومه إلى مواجهة عواقب أفعاله. وعلى الرغم من أن إجراءات عزله ستستغرق وقتاً طويلاً، ولن تظهر نتيجتها إلا بعد مغادرته موقعه، غير أن هذه الخطوة تكشف عن الهدف الحقيقي من ورائها، وهو حرمان ترامب من الترشح مجدداً في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024.

مشكلة أمريكا الحقيقية اليوم لم تعد في ترامب وحده، بل في حجم الغضب الذي يعتري ملايين الأمريكيين في ظلّ وجود معسكرين، كل واحد منهما مستعدّ لاستخدام كل الوسائل لإزاحة الآخر، وكلا الطرفين استثمرا في الأحداث التي وقعت في أمريكا منذ مقتل جورج فلويد على يد عنصر في الشرطة.

تتنوّع المسارات السياسية المحتملة لبايدن، حيث قال الرئيس الجديد إنه يريد تحسين الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، ومعالجة الديون الجامعية المتزايدة، وتوفير استثمارات جديدة في البنية التحتية. وقد تعهّد بدفع تشريع إصلاح الهجرة الذي يتضمن مساراً لمنح الجنسية للمهاجرين غير المسجلين، وكانت معارضة ترامب للمهاجرين ومنحهم الجنسية الأمريكية أحد أهم عوامل فوزه في انتخابات 2016.

ولكن في البداية على بايدن أن يواجه فيروس كورونا والتداعيات الاقتصادية المترتبة عليه، والتقليل من انتشار الوباء من خلال فرض إجراءات بالمباني الفيدرالية الحكومية، فقد أدّى الفيروس إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل ودفع العديد من الأسر إلى حافة الانهيار الاقتصادي، كما دمّر صناعات السفر والضيافة وفرض ضغطاً كبيراً على الموارد المالية لحكومات الولايات والحكومات المحلية.

وبناءً على ذلك وضع بايدن إستراتيجية للتعامل مع الوباء ومع آثاره الاقتصادية على قطاع متسع من أبناء الطبقتين، العاملة والوسطى. ويشمل ذلك أيضاً ارتداء الكمامات، وتوزيع لقاح فيروس كورونا بطريقة فعّالة ومنصفة، فضلاً عن إجراءات تخصّ التنقل بين الولايات سعياً لاحتواء الوباء الذي تسبّب حتى الآن بوفاة أكثر من 400 ألف أمريكي وإصابة 24 مليوناً آخرين.

ومن ناحية أخرى وجّه الرئيس بايدن في خطاب التنصيب نداءً من أجل الوحدة لمواجهة ما وصفه بالتطرّف السياسي ونزعة استعلاء العرق الأبيض والإرهاب المحلي، وتعهد بأن يكون رئيساً لكل الأمريكيين بغضّ النظر عن كونهم من المؤيدين له أو المختلفين معه.

إن نجاح إدارة بايدن يتوقف على عدة عوامل، أهمها الملفات التي سيعطيها الأولوية، ومدى نجاحه فيها، ولإحداث تغيير دائم، وتطبيق السياسات التي لا يستطيع الرؤساء في المستقبل التراجع عنها، يتعيّن عليه العمل مع الكونغرس. وسيتمّ اختبار تعهد بايدن بالسعي إلى الوحدة قريباً حين يصوّت الكونغرس المنقسم بشدّة على حزمة جديدة ضخمة من مساعدات التحفيز لمواجهة الوباء، وإذا أراد بايدن تفعيل ذلك بسرعة فسيحتاج إلى دعم جمهوري في مجلس الشيوخ، وهناك بالفعل دلائل على أن بعض الجمهوريين من الجناح اليميني يُحضّرون لمعارضة المزيد من الإنفاق.

وبخلاف ذلك، سيكون على بايدن محاولة إرضاء يسار الحزب الديمقراطي، الذي اصطف حوله وعمل له بصورة فعّالة طوال الحملة الانتخابية، ولاسيما فيما يتعلّق بقضايا الصحة والعمل والتعليم، ووضع نهاية لمناخ التمييز العنصري، واستهداف الأفروأمريكيين، والأمريكيين من أصول لاتينية. فتعيينه لـ كامالا هاريس نائبة للرئيس، ولويد أوستين وزيراً للدفاع، يؤكد خطواته نحو تعزيز الوحدة بشكل أكبر في المجتمع الأمريكي، ونسفاً للعنصرية وتعالي البيض.

ويرى مراقبون أن بايدن وضع خططاً شاملة وطموحة للعديد من الجبهات في إطار استعادة الثقة وتحقيق أهدافه المعلنة من أجل تعزيز أمن الولايات المتحدة وازدهارها وقيمها، من خلال اتخاذ خطوات فورية لتجديد ديمقراطيتها التي تعرّضت للاهتزاز وحماية مستقبلها الاقتصادي. وبناءً على ذلك وبُعيد أدائه اليمين الدستورية ووصوله إلى البيت الأبيض، وقّع سلسلة من الأوامر التنفيذية، أولها ما يتعلّق بتشديد الإجراءات الخاصة بجائحة كورونا والدعم الاقتصادي لمواجهة تداعيات كورونا. والأمر الثاني يخصّ المساواة العرقية والعدالة الاجتماعية للمواطنين، وضمان تحقيق المساواة والحصول على المساعدات.

صحيح أن الرئيس بايدن سوف يتخذ إجراءات مهمّة نحو منظومة أمريكية أكثر قوة وفعالية، ولكن مسألة توحيد الأمريكيين مرتبطة بالثقافة الأمريكية، وعليه فإن توحيد الثقافة الأمريكية ليس بالعملية السهلة، وتحتاج لسنوات طويلة من العمل، وربما أربع سنوات غير كافية لإحداث مثل هذا التغيير الجذري.