ديوان العرب بين الرواية الشعر
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
على مر التاريخ نعرف أن الشعر ديوان العرب، وإذا استعرضنا النتاجات الأدبية لكثير من الأدباء نرى أن الغالبية منهم بدؤوا من الشعر، وربما الفيض الكبير بداخلهم جعلهم يشعرون أن الشعر وحده لا يغطيه، ويحتاجون إلى آلاف الصفحات حتى يخرجوا هذا المكنون الداخلي، سواء الوجداني أو الإنساني أو الاجتماعي، وحتى الألم الذي يعيشه الكاتب يحتاج للشعر حتى يتبلور على الورق، فالشعر هو المختبر اللغوي الذي يولد لنا المفردات لنطور لغتنا.
لكن، ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى، الآن نرى حضوراً للرواية لتتسيد مقولة “الرواية سحبت البساط من تحت الشعر وأصبحت هي ديوان العرب”، وهناك من الأدباء من يؤيد هذه المقولة بحجة أن وهج الشعر خف، خاصة بعد رحيل فطاحل الشعراء وكبارهم؛ ومع أن هناك الآن شعراء كبار، إلا أن الشعر أصبح حالة شعورية نفسية خاصة بالأديب؛ وهناك فرق كبير بين الشاعر ومن يكتبون الشعر، فالشاعر لم يعد يكتب الحالة التي كان يكتبها المتنبي، ولا يؤرخ ليجمع تاريخ العرب، لذلك الشعر حالياً يفتقد لهذه التفاصيل التي يمكن أن تجعل منه ديوان العرب، وحتى الشاعر في عصرنا الحالي إذا أراد أن يكتب – كما المتنبي – لا أحد سيقرؤه، لأن هناك متنب واحد وليس اثنان!! ومن هنا ربما وقع على عاتق الرواية كل هذا الشيء، بسبب أن مجالها أوسع ومداها أكبر وتفاصيلها أكثر، وتستطيع أن تؤرخ لمرحلة أطول، فالقارئ عندما يقرأ الرواية يتمكن من الإحاطة بالأحداث، ويقرأ تاريخاً مخالفاً لما يكتبه المؤرخون، بحكم ما تتضمنه الرواية من أحاسيس وبشر ومكان وزمان وكل شيء، لذلك – حسب ما يرى البعض – فالرواية منذ ثلاثين سنة وحتى الآن هي حالياً ديوان العرب، وهي المتفوقة، لكن بالمقابل هذا لا يمنع أن الشعر حالة وجدانية تلامس شعورنا.
الحقيقة، إذا توقفنا عند النتاجات الأدبية منذ ثلاثة عقود وحتى الآن، نرى نتاجاً روائياً كبيراً لكن أغلبه يبدو وكأنه فاقد للهوية، أو غير واضح المعالم، أما من حيث أن الرواية سحبت البساط من تحت الشعر فلا يمكن لجنس أدبي أن يحل محل جنس أدبي آخر، فالأجناس الأدبية تتكامل فيما بينها، وما من جنس أدبي يمكن أن يزيح الآخر لصالحه، أو أن يسحب البساط من تحت قدميّ الأجناس الأدبية الأخرى، ويستقل ببساط يخصه، فالأجناس الأدبية كلها تتشارك فيما بينها في البحث عن قيم الحق والخير والجمال، كل على طريقته وبقوانينه التي تخصه، ووفق منظومته الجمالية التي ينتمي إليها، لذلك صحيح أن الشعر العربي قد خسر رهانه على بقائه في الذاكرة الجمعية، خاصة أننا بتنا بسبب تعدد وسائل التواصل التي وضعتنا على موجة الشعر السطحي الخالي من الفكرة والصورة والقيمة للقصيدة الموزونة، ما يحتم علينا الاجتهاد والتفريق بين الأجناس الشعرية، وهذا يحتاج لدراسات حقيقية في ظل نقص الدراسات حول الشعر وماهيته وجدواه، فالأدب ليس شكلاً، وإنما مضمون أيضاً، لكن ذلك لا يعني أن الرواية استطاعت أن تكسب حضورها في مواجهة الشعر، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن خسارة للشعر أمام انتصار للسرد، فالشعر حاضر على أيدي أعلام كبار، والأمثلة أمامنا كثيرة، كما لدينا أيضاً رهان حقيقي على أن السرد حاضر بقوة وفاعل في الذاكرة الجمعية، ولم يكسب أيضاً حضوره في مواجهة الشعر، ولا في مواجهة المسرح أو الموسيقى أو الأغنية أو الدراما. وهناك سنّة في الحياة الثقافية، وفي الثقافة عامة، أن كل جنس أدبي يحاول ما استطاع أن يحل محل جنس آخر، لكن ما من جنس عبر تاريخ الثقافة استطاع أن يفعل ذلك، أو أن ينجز ذلك، ولعل الأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المجال.