مجلة البعث الأسبوعية

“دبلوماسية الطاقة” لتغيير نظام القطب الواحد ورقة تفاوضية في الدبلوماسية الدولية ومصدر هام في توجهات السياسة الخارجية الروسية

البعث الأسبوعية- قسم الدراسات

أصبحت استراتيجيات السياسة الخارجية للعديد من الدول تتعامل مع قضايا أمن الطاقة کعامل جيوسياسي رئيسي يتحدد معه نفوذ الدولة ومدى تأثيرها، وقد شكلت روسيا، الدولة المتصدرة في انتاج الطاقة وتصديرها، نموذجاً للدول التي استطاعت أن تستخدم الطاقة کأداة لفرض النفوذ على المستوى الدولي، ومحاولات تغيير نظام توازن القوى من نظام القوى الواحد إلى نظام متعدد القوى.

منذ سنوات اهتمت روسيا بإستعادة دورها کمرکز قوة مع تراجع نفوذ الغرب، حيث تشير مجموعة کبيرة من وثائق الأمن والسياسة الخارجية الروسية إما ضمنياً أو صراحةً إلى أن العالم أحادي القطب قد انتهى، وأن روسيا تستحق دوراً أکثر أهمية في نظام عالمي جديد، حيث تعد “دبلوماسية الطاقة” عنصراً أساسياً في هذه السياسة الخارجية التي حرصت روسيا من خلالها متابعة الشؤون العالمية.

وهنا ذهب بعض الباحثين إلى التأکيد على أن مفهوم “أمن الطاقة” نفسه ظهر نتيجة العلاقات الصراعية والتنافسية بين الدول التي تؤدي إلى إدراك أهمية تأمين احتياجات الدولة من الطاقة، حتى أطلق عليها ما يسمى  “فخ حتمية الموارد”.

تعود الانعكاسات الأکاديمية حول أمن الطاقة إلى الستينيات، وقد ظهر أمن الطاقة کمفهوم له أبعاد سياسية في أوائل القرن العشرين فيما يتعلق بتزويد الجيوش بالنفط والتي نشأت مع أزمات النفط في السبعينيات وفي أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ثم انخفض الاهتمام الأکاديمي بأمن الطاقة بعد استقرار أسعار النفط وتراجع التهديد بالحظر السياسي، وعاد وظهر من جديد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مدفوعاً بالطلب المتزايد في آسيا، واضطراب إمدادات الغاز في أوروبا.

مفهوم أمن الطاقة

تطور الاهتمام بأمن الطاقة عبر موجات مختلفة، بدأت الموجه الأولى لتطور مصطلح “أمن الطاقة” في السبعينيات والثمانينيات باعطاء الأولوية القصوى لإمدادات مستقرة من النفط الرخيص، وعلى الرغم من القيود والتلاعب بالأسعار في البلدان المصدرة، تم إيلاء بعض الاهتمام للحاجة إلى إدارة أفضل لمؤسسات الطاقة، بما في ذلك الشرکات المملوکة للدولة، ثم إدارة أکثر فعالية لتکنولوجيا الطاقة. أما الموجه الثانية فکانت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث تم الترکيز على ضمان الوصول المتکافئ لجميع الفئات الاجتماعية إلى مصادر الطاقة الآمنة، وتقليل التأثير السلبي لقطاع الطاقة على البيئة والمناخ.

قدمت مدارس العلاقات الدولية الکبرى “الواقعية الجديدة- الليبرالية الجديدة- البنائية-الاقتصاد السياسي” وجهات نظر مختلفة حول مستوى التعاون، والعناصر والجهات الفاعلة، والأولويات الرئيسية لأمن الطاقة.

ترکز الواقعية الجديدة على أهمية الدولة کفاعل أساسي في سياسة أمن الطاقة، کما تهتم بتحليل سياق المصالح الوطنية والأمنية والمواجهات العسکرية والصراعات الإقليمية في مجال الطاقة. وتعتبر الإجراءات العسکرية القوية لضمان أمن الطاقة من بين الموضوعات البحثية الرئيسية في الواقعية الجديدة.

على عکس الواقعية الجديدة، ترکز الليبرالية الجديدة على التعاون الدولي والجهات الفاعلة غير الحکومية، ونظراً لأن الدول غير قادرة على التحکم في أسعار الطاقة من وجهة نظر الليبراليون الجدد، يتم وضع سياسة الطاقة من قبل الشرکات الوطنية والمؤسسات المالية ومراکز الفکر ووسائل الإعلام التي قد يکون لها تأثير کبير على نظام الطاقة العالمي وعلى اقتصاديات الدول.  بالنسبة لليبراليون الجدد فقد أدى ظهور سوق الطاقة العالمي وانخفاض عدد الصراعات وحدتها إلى تقليل احتمالية “حروب الموارد”، وبالتالي فهم غير مهتمين بنزاع عسکري يمکن أن يزعزع استقرار تجارة الطاقة العالمية أو الإقليمية. علاوة على ذلك، فإن التکاليف المرتفعة للعمليات العسکرية والقضايا السياسية ذات الصلة لا تبرر الاستيلاء على حقول النفط والغاز، لأن شراء النفط والغاز من السوق سيکون أرخص وأسهل بکثير.

اهتم البنائيون بجعل الشخص هدفاً للأمن، وعملوا على توسيع نطاق الجهات الفاعلة المشارکة في ضمان الأمن لجميع الأفراد فشملت تلك الفواعل المنظمات الدولية والمنظمات غير الحکومية والعوامل المعرفية التي تنتج عن تفاعل تلك الوحدات. وسمات العلاقات الدولية، بما في ذلك المتعلقة بالطاقة، ورکز البنائيون على الدور المجتمعي للطاقة وأحد الأصول الاستراتيجية التي لها دور في السياسة والاقتصاد. کما يرى البنائيون أن السمات الأساسية للعلاقات الدولية بما في ذلك المتعلقة بالطاقة غير ثابتة تعتمد على طبيعة تدفق المعلومات والتفاعلات بين اللاعبين على الساحة الدولية، وبالتالي تختلف تفسيرات ظواهر العلاقات الدولية، بما في ذلك تهديدات الطاقة والأمن، باختلاف الفاعلين الدوليين.

تعتبر مدرسة الاقتصاد السياسي الطاقة أحد هياکل السلطة التي تلعب دوراً رئيسياً في دعم الهياکل الأساسية المتمثلة في الأمن والتمويل والإنتاج والمعرفة. وتعتبر مدرسة الاقتصاد السياسي أن الفائز في المنافسة بين تلك الهياکل الأساسية الأربعة للسلطة هم الفاعلون في السوق وليس الدول.

النفوذ الروسي والطاقة

يرتبط النفوذ السياسي ارتباطاً وثيقاً بالطاقة التقليدية، لأنه أحد المصادر الحاسمة للقوة والتحفيز في الاقتصاد العالمي المعاصر، كما تلعب الطاقة دوراً رئيسياً في تشکيل الشؤون الخارجية للدولة في السياسة الدولية. وعلى مر السنين، شکلت مصدراً هاماً للتأثير السياسي کورقة تفاوضية في الدبلوماسية الدولية.

في تسعينيات القرن الماضي کان استخدام روسيا للطاقة کأداة واضحة للعيان، ومنذ منتصف عام 2000، بدأت روسيا في تعزيز سلطتها من خلال سيطرة الدولة على إنتاج النفط والغاز، حيث نظرت وزارة الطاقة في الاتحاد الروسي إلى الطاقة على أنها نوع من “الأداة الجيوسياسية” وأحد أصول القوة الناعمة الحاسمة التي تستخدمها روسيا للحفاظ على مجال نفوذها في العالم، حيث عززت صادرات الطاقة الروسية بشکل کبير من عائداتها وقوتها الاقتصادية، وتبنت موسکو بعض المواقف التکتيکية مثل ارتفاع الأسعار أو الخصومات من أجل تعزيز دوافعها الجيوسياسية، وبرزت “أنابيب الغاز” كأداة سياسية فاعلة في يد الدولة ضد الأطراف الأخرى.

وتمارس روسيا نفوذها الطاقوي من خلال شرکات الطاقة الکبرى التي تعمل في مشاريع استخراج موارد الطاقة الروسية والامدادات بالاضافة إلى المشاريع التعاونية في دول العالم الخاصة بالطاقة، وبالتالي فهذه الشرکات هي أدوات النفوذ الروسي عبر العالم کمحاولة للانتقال إلى صيغة تعددية للنظام الدولي.

المفهوم الروسي لأمن الطاقة

يمثل عامل الطاقة عنصر هام في تحديد مسار وتوجهات السياسة الخارجية الروسية، حيث تعتبر روسيا من أغنى دول العالم من حيث مصادر الطاقة، فهي الدولة الأولى عالمياً من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي، کما تمتلك سابع أکبر احتياطي نفط في العالم، ويعتبر قطاع الطاقة دعامة أساسية للأمن القومي الروسي وأداة مهمة من أدوات سياستها الخارجية، ويضم القطاع کل من النفط والغاز الطبيعي والفحم، ويمثل هذا القطاع مورداً أساسياً من الموارد الاقتصادية في روسيا تکفي عوائده لتطوير باقي قطاعات الانتاج وتحسين الاقتصاد الروسي وتحقيق الاستقلال والنفوذ على المستوى الخارجي، وقد حرص الرئيس بوتين في عهده على بقاء الصناعات الخاصة بالطاقة تحت سيطرة الدولة واستخدام الشرکات العاملة في مجال الطاقة کأداة لبسط النفوذ الروسي في الخارج، وتمثل أوروبا السوق الرئيسي للنفط والغاز الروسي حيث تقوم الأخيره بامدادها ب27% من احتياجاتها من النفط وأکثر من 50% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وبالتالي لقطاع الطاقة دور في تعزيز قدرات روسيا المتنامية وضمان استقرار اقتصادها ومن ثم سياستها.

سياسات الطاقة الروسية

تعتمد سياسية الطاقة الروسية على عدة استراتيجيات هامة، مثل استراتيجية الطاقة الروسية لعام 2030، ولعام 2035، ووثيقة عام 2012، وغيرها من الوثائق التي حددت أمن الطاقة وأثرت على أهداف روسيا الجيوسياسية، واعتبرت وثيقة عام 2012 من أهم الوثائق التي کانت بمثابة خارطة طريق لأهداف صناعة الطاقة لروسيا، حيث قسمت الوثيقة تهديدات أمن الطاقة الروسي إلى مجموعتين بناءً على الاتجاهات الجيوسياسية الحالية وأسواق الموارد الطبيعية شملت عدد من التهديدات الداخلية، مثل التهديدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتکنوجينية والطبيعية، و العوامل الخارجية للسياسة والاقتصاد الدوليين التي يمکن أن تضعف أمن الطاقة في روسيا نتيجة لإجراءاتها المتراکمة أو بشکل منفصل، وتحدد الوثيقة العلاقة الوطيدة بين أمن الطاقة في روسيا والمجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحلية والدولية التي لها تأثير على المصالح الوطنية لروسيا.

أوروبا والاعتماد المتبادل

وفقاً لإستراتيجية روسيا التي أطلقتها 2010، تظل أوروبا الوجهة الرئيسية لصادرات روسيا من الطاقة حتى عام 2030، وبالنظر إلى مفهوم أمن الطاقة الأوروبي، نجد أنه يعتمد على عدة أسس تشمل، ضمان التدفق المستمر لموارد الطاقة بلا انقطاع، وتوفير الطاقة من مناطق انتاج موثوقة بالأسعار المناسبة، بالإضافة إلى عدم إلحاق الضرر بالبيئة وتنويع مناطق امدادات الطاقة لتقليل التبعية لدولة روسيا.

من خلال هذا المفهوم لأمن الطاقة الأوروبي ومقارنته بمفهوم أمن الطاقة الروسي، نجد أن هناك اتفاق في المفهومين في الجزء الخاص بضرورة استمرار تدفق امدادات الطاقة بينهما، إلا أن هناك اختلاف في کل من حجم هذه الامدادات واستمراريتها وطرق نقلها، وبالتالي تلعب الطاقة دور محوري في العلاقات الروسية- الأوروبية وذلك لسببين أساسيين:

  • السبب الأول: تعتمد دول الاتحاد على امدادت الطاقة الروسية بنسبة تمثل حوالي 30% من حاجتها، بالإضافة إلى بعض دول أوروبا الشرقية تعتمد على الطاقة بنسبة 100%، وفي المجمل تعتمد أوروبا على روسيا بنسبة 3٩% من الغاز الطبيعي، و٣٣٫٥% من النفط و30% من الفحم، وتحتل روسيا المرکز الثالث في التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة والصين بنسبة تعادل 7% في صادراته و11% في وارداته.
  • السبب الثاني: تعتمد روسيا على السوق الأوروبية بشکل کبير بنسبة لا تقل عن 70% من صادراتها من الغاز الطبيعي و80% من إجمالي صادراتها من النفط و50% من إجمالي صادراتها من الفحم، کما تقوم روسيا باستيراد أکثر من نصف حاجتها من التقنيات الخاصة باستخراج الطاقة من دول الاتحاد.

ومع ذلك، في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، کان للتطورات السياسية تداعيات سلبية على تجارة الطاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، ففي عامي 2006 و 2009، تسببت النزاعات بين روسيا وأوکرانيا فيما يتعلق بسعر ونقل الغاز في حدوث اضطرابات مؤقتة في إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، رافقت الاحتکاکات الجيوسياسية الجديدة بين موسکو والغرب هذه التطورات، مما أدى إلى زيادة النبرة الأمنية في الخطابات السياسية حول الطاقة، کما أدت الحرب الروسية الجورجية في آب 2008 إلى تأجيج التوترات بين الطرفين، وحولت الأزمة الأوکرانية عام 2014، والعملية الخاصة لروسيا في أوكرانيا شباط 2022  هذه التوترات إلى مواجهة مفتوحة وأثرت أيضاً على موقف الاتحاد الأوروبي وروسيا تجاه تجارة الطاقة بينهما، فمع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب الأزمة الأوکرانية، أصبح أمن الطاقة أحد الشواغل الرئيسية بين صانعي السياسة في بروکسل، کما کان يخشى أن يقع أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي ضحية للأزمة السياسية خاصة في دول أوروبا الشرقية الأکثر اعتماداً على امدادات الغاز الروسي.

الخاتمة:

لم تعد القدرات العسکرية للدولة هي المصدر الوحيد للنفوذ السياسي، حيث تعتبر الموارد الطبيعية لأي بلد متغيراً مهماً لسلطة الدولة ومد نفوها، وقد أدرکت روسيا هذه الأهمية لمد نفوذها حول العالم، وفي الواقع فإن النفوذ الروسي يعتبر نشاط طويل الأمد يستخدم العديد من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسکرية والطاقوية والتکنولوجية، وقد اعتمدت روسيا على الطاقة کأداة أساسية لزيادة النفوذ وتصدير صورة روسيا للعالم کدولة کبرى لها تأثير على السياسات العالمية.

إن الطاقة أداة استراتيجية رئيسية لها دور في توسيع مجال التأثير الجيوسياسي، وبالنسبة لروسيا فإن الطاقة ينظر لها على أنها سلعة استراتيجية توفر أساساً لتوسيع النفوذ من خلال خلق علاقات طاقوية تخلق تأثيراً سياسياً بين الدول على الصعيد العالمي.

كما أن التحول في ميزان القوى الدولي يتحدد وفقاً للأمن الاقتصادي الذي بدوره يحدد مکانة الدولة في نظام القوى الدولي، حيث أن القدرة الاقتصادية لأي دولة تعد مصدراً للقدرة العسکرية، کما تحدد قدرة الدولة على ممارسة النفوذ السياسي، وهذا ما وفرته الطاقة لروسيا، فنظراً لکونها دولة رائده في استخراج وتصدير الموارد الطبيعية والمعدنية، فقد استخدمت روسيا نفطها وغازها الطبيعي کرافعة سياسية في سياستها الخارجية وخاصة في الاتحاد الأوروبي.

وهنا يمکن المجادلة بأن النفوذ الروسي المبني على الطاقة سوف يستمر فترة طويلة تحاول معها روسيا التصدي لأي محاولات للمنافسة، مع الاستمرار في السيطرة والتأثير وخلق مکانه دولية من خلال أدوات معتمدة على الطاقة.