الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الجهل المقدّس

د. نضال الصالح

للباحث الفرنسي “أوليفيه روا” كتاب علامته اللغوية الكبرى هي العلامة التي اخترتها لهذه المادة، أمّا علامته الصغرى، فهي: “زمن دين بلا ثقافة”، وصدر، بترجمته إلى العربية، عن دار الساقي في بيروت سنة 2012.

الكتاب شديد الثراء معرفياً، غير أنّ ما يعنيني منه، هنا والآن، ليس ما يتضمّنه على الرغم من أهميته، بل العلامة اللغوية التي اختارها المؤلف له، أي “الجهل المقدّس” الذي عنى به الإيمان الأعمى، والذي يكاد يرادف ما كان النفّري اصطلح عليه بالعلم المستقرّ وشبّهه بالجهل المستقرّ، كما يرادف تمييز الفيلسوف الفرنسي “لالاند” في كتابه “العقل والمعايير” بين العقل الناظم والعقل المنظوم، أو العقل المكوِّن (بكسر الواو وتشديدها) والعقل المكوَّن (بفتح الواو وتشديدها).

هل يمكن للجهل أن يكون مقدّساً؟ بل هل ثمة مَن يقدّس الجهل، فرداً أو جماعة أو مجتمعاً أو أمّة؟ وكيف يمكن لقوّة معوّقة لحركة العقل أن تحظى بمؤيدين لها، وأحياناً إلى الحدّ الذي يتحول هؤلاء المؤيدون معه إلى عبيد لها أو أرقّاء، وإلى أيّ حدّ يمكن لـ”الجهل المقدّس” أن يكون له حضوره في الثقافة؟.

أجل يمكن، وأكثر من ذلك يمكن أن يكون “الجهل المقدّس” هو السمة المميزة لهذا المشهد الثقافيّ أو ذاك، أو لهذه الفعاليات الثقافية أو تلك، أمّا كيف يمكن أن يكون ممكناً، فهذه بعض الصور الدالّة على ذلك: التصفيق المجّاني لفعل “ثقافيّ” شكلاً و”وظيفي” محتوى، ولآخر بدين كمّاً على مستوى الحضور وناحل أثراً على مستوى العائد منه، ولثالث وهّاج على المستوى الإعلاميّ وباهت على المستوى الواقعيّ. ومنها، أي من الصور الدالّة، ما يمكن الاصطلاح عليه بالممجّد لهذا المسؤول الثقافيّ أو ذاك، بوصفه مسؤولاً فحسب لا بوصفه مثقفاً، بحثاً عن فتات على مائدته، أو طمعاً بامتياز صغير من عائدات المؤسّسة التي آلت إليه على غفلة من الحقيقة، وعلى غفلة من الثقافة نفسها. ومنها شهود الزور الذين لا يتردّدون عن دفع الحقيقة إلى الوقوف على رأسها بدلاً من وقوفها على قدميها.

الثقافة قيم ومبادئ وأخلاق، والمثقف حارس بالضرورة لهذه القيم والمبادئ والأخلاق، وهو باحث بالضرورة أيضاً عن الحقيقة ومعنيّ بها لا بالزيف، وفاعلٌ لا مفعول به أو فيه، وإن ارتضى لنفسه الصفة الثانية فهو “جهل مقدّس” يمشي على قدمين، أو جهل مستقرّ، أو عقل منظوم.

لشيخ القصة العربية الراحل يوسف إدريس قوله: “الثقافة هي المعرفة الممزوجة بالكرامة”، وما مِن ريب في أنّ من أبجديات الكرامة أن يكون المرء حرّاً، وأن يعي أنّ الحرية مسؤولية، وأنّ المسؤولية تعني قول الحقيقة، وأنّ الحقيقة، شأن الشمس، لا يمكن أن تُحجب بغربال، وأنّه “لا يصحّ إلا الصحيح” مهما تغوّل الزيف، أو تورّمَ، أو عمّرَ حتى يطول عليه الأبد شأن “لُبد” في المثل العربيّ القديم.

وبعد، فما أكثر الذين ينطبق عليهم قول “تشومسكي”: كثير من “المثقفين” لديه مشكلة، عليه تبرير وجوده!.