دوافع الإدارة الجديدة تسير في اتجاهات متضاربة.. ثلاثة توترات يتعين على بايدن التوفيق بينها!!
“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
الاقتصاد الدولي هو أحد مجالات السياسة الأمريكية، حيث سيكون هناك تمايز واضح بين عهدي ترامب وبايدن. وسواء أكان الرئيس الجديد أقل هوساً بالعجز التجاري الثنائي والتعريفات الجمركية، أو أكثر التزاماً بحل المشكلات متعددة الأطراف، أو أشد انضباطاً في عملية صنع السياسات، فإن نهج إدارته سيكون مختلفاً بشكل ملحوظ عن نهج سابقتها، وهناك ثلاثة جوانب للسياسة الاقتصادية الدولية يبدو فيها أن دوافع الرئيس بايدن تسير في اتجاهات متضاربة، وما لم يتم التوفيق بين هذه التوترات، فهناك خطر من أن هذا المجال المهم من السياسة سيتعثر في الإدارة الجديدة.
التوتر الأول هو بين الأولويات الاقتصادية المحلية والدولية؛ ففي بيانات حملته الانتخابية، وتعيينات الموظفين، والمقترحات التشريعية المبكرة، أوضح بايدن أن إعادة البناء في أمريكا هي الأولوية رقم واحد لإدارته، وهذا أمر مفهوم، بالنظر إلى الأزمات متعددة الوجوه التي يواجهها: جائحة كوفيد-19، والاضطراب الاقتصادي، والظلم العنصري والانقسامات السياسية العميقة. في الوقت نفسه، قال الرئيس الجديد إنه لن يضيع الوقت في تنشيط التحالفات الأمريكية وإعادة الانخراط في المؤسسات الدولية والجهود متعددة الأطراف.. هذه الأولويات ليست بالضرورة متعارضة. وفي الواقع، صاغ فريق بايدن عبارة “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى” على وجه التحديد، للتأكيد على أن الانخراط الدولي للإدارة الجديدة، اقتصادياً وغير ذلك، سيكون في خدمة إعادة البناء المحلي، وعلى وجه التحديد، تحسين وضع العامل الأمريكي. ولكن هناك شيطان في التفاصيل، وهذا ما يحتاج إلى حل.
إن وقت الرئيس ورأسماله محدودان، والأولويات المحلية والدولية يمكن أن تزاحم بعضها البعض في الممارسة العملية، فالأحداث على المسرح العالمي – سواء تلك الموجودة بالفعل على الأجندة، مثل مؤتمرات القمم الدولية أو الأزمات المفاجئة (الديون المتراكمة الخطيرة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل هي أحد المخاطر التي تلوح في الأفق في الوقت الحاضر) يمكن لها أن تشتت الانتباه عن عمل السياسة المحلية. وبشكل أكثر جوهرية، قد تتعارض بعض عناصر خطة “إعادة البناء بشكل أفضل” مع أولويات بايدن الدولية. وعلى سبيل المثال، هل التعهد بـ “شراء المنتجات الأمريكية” يعمل ضد الجهود المبذولة لإعادة بناء العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة الذين من المرجح أن يرغبوا في الحصول على حصة عادلة من الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية والابتكار؟
إن التوفيق بين هذه الأولويات المتضاربة سيتطلب من بايدن فرض انضباط صارم لضمان عمل مختلف مجالات صنع السياسات بشكل منسق، وهو ما يغدو أكثر أهمية في ضوء العدد الكبير من كبار المسؤولين المعينين في مناصب رئيسية في البيت الأبيض، والذين قد تتعارض أجنداتهم السياسية إلى حد ما. وتتمثل الخطوة البيروقراطية المهمة في إبقاء الحلفاء على اطلاع على، بل والمشاركة في خطط إعادة البناء المحلية أيضاً.
يتمثل التوتر الثاني في سياسة بايدن الاقتصادية الدولية في نفور الإدارة الجديدة من المفاوضات التجارية التقليدية، ورغبتها في إعادة تأسيس القيادة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كمرشح، ثم كرئيس منتخب، صب بايدن وفريقه الماء البارد على فكرة التحرك المبكر للإدارة الجديدة بهدف التفاوض على اتفاقيات التجارة. وقد أشاروا جميعاً إلى عدم الاهتمام بالعودة إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية التجارة الإقليمية الكبرى مع 11 من حلفاء وشركاء الولايات المتحدة الذين كانوا تفاوضوا مع إدارة أوباما بشأنها، ليتخلى عنها دونالد ترامب فيما بعد.
يتفق جميع خبراء سياسة آسيا في واشنطن، تقريباً، على أن استراتيجية الولايات المتحدة الفعالة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يجب أن تتضمن سياسة اقتصادية وتجارية موثوقة؛ وإذا كان الحلفاء والشركاء في المنطقة يرحبون بالوجود الأمني الأمريكي كـ “قوة لتحقيق الاستقرار”، فإنهم يريدون أيضاً أن تكون واشنطن شريكة نشطة في جهود تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي؛ وإذا لم تنضم الولايات المتحدة مرة أخرى إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ “TPP”، فإن الحلفاء والشركاء يتوقعون منها تقديم استراتيجية اقتصادية بديلة مقنعة للمنطقة.
سوف يتزايد الضغط على إدارة بايدن لصياغة مثل هذه الاستراتيجية مع اقتراب سلسلة القمم السنوية في آسيا، في خريف عام 2021؛ ويمكن للرئيس بايدن – الذي قد لا تكون لديه حساسية من إعادة الانضمام إلى الشراكة مثل مستشاريه – أن يربك فريق إدارته في قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “آبيك” السنوية في تشرين الثاني من خلال الإشارة إلى مصلحة الولايات المتحدة طويلة الأجل في العودة إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ بشروط مناسبة، مع اقتراح أن يبدأ الشركاء الراغبون في المنطقة ببناء القواعد والمعايير في المجالات الرئيسية. أحد هذه المجالات هو الاقتصاد الرقمي، حيث توجد حاجة ملحة لقواعد مشتركة بشأن البيانات والتجارة الإلكترونية، ويمكن لبايدن أن يقترح الجمع بين العمل الحالي بشأن هذه القضايا – في “آبيك” و”TPP” واتفاقية التجارة الرقمية بين الولايات المتحدة واليابان – في اتفاقية رقمية شاملة للمنطقة. ويعد وضع القواعد بشأن الشركات المملوكة للدولة والممارسات التنظيمية الجيدة أهدافًا واعدة أخرى للتفاوض الإقليمي.
التوتر الثالث بين المواجهة والمشاركة مع الصين، فقد أوضح الرئيس بايدن أنه يشارك إدارة ترامب تقييم الصين كخصم استراتيجي للولايات المتحدة، وليس لدى كبار المستشارين، مثل جيك سوليفان ومنسق المحيطين الهندي والهادئ كورت كامبل، أوهام بشأن التحدي الذي تشكله بكين لمصالح الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وخارجها، لكن من المرجح أن تحتفظ إدارة بايدن بسياسات تعزز الفصل الانتقائي للاقتصاديين – خاصة في مجال التكنولوجيا – وتتخذ، في الوقت نفسه، موقفاً أكثر تشدداً من سابقتها بشأن ما تزعمه من قمع بكين لحقوق الإنسان والديمقراطية في شينغيانغ وهونغ كونغ وأماكن أخرى.
أيضاً، ستشعر إدارة بايدن أيضاً أنها مضطرة للتعامل مع بكين لمواجهة التحديات العالمية حيث تكون الصين جزءاً من المشكلة أو الحل، أو كليهما، ويشمل ذلك الأوبئة وتغير المناخ والانتشار النووي. ولمعالجة هذه القضايا، سيرغب فريق بايدن في إعادة إنشاء قنوات اتصال دبلوماسية مع بكين التي انقطعت فعلياً خلال إدارة ترامب.
ما يثير القلق هو أن الدوافع لمواجهة بكين أو الشراكة معها ستدخل في نهاية المطاف في صراع، مما يقوض جهود كلا الطرفين. وأحد المخاوف المحددة التي نوقشت كثيراً في واشنطن هو أن جون كيري، بصفته مبعوثاً رئاسياً خاصاً بشأن تغير المناخ، قد يعرض على بكين تنازلات بشأن التجارة أو حقوق الإنسان من أجل ضمان تعاونها في قضايا المناخ؛ ويرد الآخرون بأن هذا القلق في غير محله، انطلاقاً من الافتراض بأن فريق بايدن يظل واضحاً بشأن “المصالح والقيم الأمريكية” عند التعامل مع الصين.
خطوات عديدة ستساعد في ضمان توازن إدارة بايدن بشكل فعال بين جانبي التنافس والتعاون في العلاقة مع الصين، وإحدى هذه الخطوات إثارة تعاون بكين في قضايا مثل الصحة العالمية والمناخ من خلال المنظمات متعددة الأطراف، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة العشرين، وإظهار الاستعداد لاستخدام نفوذ حقيقي للضغط على بكين بشأن هذه القضايا. ولإدارة هذا التوازن الصعب، يجب على إدارة بايدن التفكير بإعادة إنشاء القناة غير الرسمية رفيعة المستوى بين كبار المسؤولين في السياسة الخارجية والاقتصاد في البيت الأبيض وشنغهاي، والتي استخدمتها أحياناً إدارة أوباما.
واليوم، ستكون هناك، على الجانب الأمريكي، مجموعة جيك سوليفان وكيرت كامبل وبريان ديزي، وعلى الجانب الصيني يانغ جيتشي وليو هي، كبيرا مستشاري السياسة الخارجية والاقتصاد لدى شي جين بينغ.
من خلال المنظور الاستراتيجي وانضباط العملية، يرى بعض المراقبين أن إدارة بايدن ستكون قادرة على التوفيق بين التوترات الثلاثة المحددة هنا. وبدونها، هناك خطر أن تتعطل السياسة الاقتصادية الدولية بسبب التناقضات الداخلية لأمريكية.