العقارات.. غلاء فاحش وأسواق متخمة بالمليارات وأصحاب الدخل المحدود خارج حسابات تجار “البناء” والشكوى معممة!!
“البعث الأسبوعية” ــ بشير فرزان
“سنتمسك بالأمل”، عبارة اختصر بها سامي الحمد معاناته، وهو الشاب الذي يحاول أن يؤمن شقة صغيرة ليتزوج بها ويبدأ حياته مع شريكة عمره التي شاطرته العبارة نفسها، حيث بدا عليها اليأس بعد أشهر من البحث المتواصل عن شقة صغيرة في ضواحي دمشق، دون جدوى، فمبلغ 15 مليون ليرة غير كاف لتحقيق حلم هذين الخطيبين بالزواج، والسكن في بيت تعود ملكيته لهما، بدلاً من بيوت الإيجار التي لن يقدرا على تأمين إيجارها الشهري، هذا عدا عن رحلة التنقل الدائمة من بيت إلى آخر، والخلاف مع صاحب البيت!!
ولاشك أن هذه المعاناة تفرض على سامي وخطيبته اتخاذ قرارات الصعبة: إما الانفصال بما يتوافق مع رغبات الأهل نظراً لعدم تحقيق شروطهم، أو الزواج بغير رضاهم، وهذا ما لا يحبذانه.. وللأسف، حتى الجمعيات السكنية التي لجأا إليها لم تعد كما كانت سابقاً ذات طابع اجتماعي، بل ربحي، فأسعارها تقارب أسعار السوق.
وطبعاً قصة سامي تشبه قصص آلاف الباحثين عن شقة سكنية بأسعار تتناسب مع مدخراتهم، إلا أنهم يعودون دائماً “بخفي حنين” – كما يقال – ونستثني هنا قصص المهجرين الذين يحلمون بعودتهم إلى منازلهم التي دمرها الإرهاب.
انتعاش عقاري
رغم الظروف الصعبة من كافة النواحي، إلا أن قطاع العقارات يشهد انتعاشاً كبيراً، ولكن دون أن ينعكس إيجاباً لناحية الانخفاض في الأسعار، حيث لم تتوقف عمليات التشييد والبناء التي شابها الكثير من المخالفات، وخاصة في ريف دمشق حيث كانت الفوضى بدءاً من عمليات الترخيص والتنفيذ مروراً بالاستثناءات التي منحت تحت مظلة الانتفاع، وغير ذلك من الأسباب. ولم تتوقف الأمور عند هذه الحدود، بل كان هناك حالة من التخبط والمضاربة في السوق العقارية التي تغيب فيها الضوابط، ويتم تحييد الضمير بغياب الرقابة، وتحت غطاء كثيف من المبررات والأسباب الدائرة في فلك الأحداث التي تشرعن الارتفاعات المتعددة في الأسعار، سواء لجهة المواد أم أجور العمالة؛ والنتيجة ارتفاع جنوني وغير مسبوق في سوق العقارات حتى وصل سعر المتر الواحد في أشرفية صحنايا، مثلاً، إلى أكثر من مليون ونصف المليون ليرة.
استغراب
الكثير من أصحاب الأراضي الذين التقيناهم عبروا عن استغرابهم من المنافسة التي تجري بين المتعهدين على الأراضي والأموال التي تدفع لهم، سواء عند الشراء أو عند المشاركة؛ ولفتوا إلى أنهم في النهاية يبحثون عن مصلحتهم التي تتمثل بالحصول على أعلى رقم في البيع أو في نسب المشاركة. وفي المقابل، ينقسم المتعهدون ما بين أصحاب أموال وشركات عقارية ولهم إسم في السوق العقارية، وبين حديثي العمل في هذا القطاع ويعملون على تأسيس “سمعة لهم” – كما قالوا – من خلال تنفيذ مثالي وراق للأبنية، وهناك أيضاً من يتاجر بأحلام الناس ويستغل حاجتهم ويغريهم بالوعود، ومن ثم يغادر تاركاً المشروع والمشكلات وعمليات الاحتيال والنصب التي قام بها في عمليات البيع المتكرر للقضاء.. وهنا يدخل الجميع في دوامة عدم تنفيذ العقد مع صاحب الأرض.
لعبة الأرباح
الجميع يتحدث عن الغلاء وارتفاع الأسعار، ولكن لا أحد يعرف آلية المعالجة، فالمتعهد وأصحاب المنشآت، وكل من يعمل في هذا القطاع يشكو من ارتفاع الأسعار، ويتغاضى في الوقت ذاته عن أرباحه الكبيرة التي كانت الإجابات حولها عامة وغير تفصيلية، وكانت تصب في خانة المبررات لصالح المتحدث، أي كان، كما حصل معنا مع “أبو عبدو”، فالفارق الكبير بين الأرباح والكلف أجبره على استخدام الآلة الحاسبة لمرات عديدة ليقدم لنا جردة حساب عن التكاليف التي يتكبدها المتعهد كمادة الحديد، التي يصل سعر الطن الواحد إلى أكثر من مليوني ليرة، وكذلك بالنسبة لمواد البحص والرمل وغيرها، والتي نالت نصيبها من الارتفاع بعد غلاء مادة المازوت خلال الفترة الأخيرة وندرة وجودها؛ وتبقى الأسعار متفاوتة بين سوق وآخر، وبين منطقة ومنطقة. ولكن رغم الحديث الطويل لـ “أبو عبدو”، إلا أنه لم يستطع إقناع كل من كان متواجداً في مكتبه بأرباحه المتواضعة، فالآلة الحاسبة أحرجته أكثر من مرة، خاصة فيما يتعلق بكلفة المتر والأرباح، ولن ننسى أن أي رقم سيكون تقديرياً في حال كان هناك حالة من التلاعب بالمعايير.
فورة سعرية
الشكوى من الأسعار كانت حالة مشتركة بين جميع الأطراف في السوق العقارية، وحتى المتعهدين الذين عبروا عن عدم رضاهم عما يجري في السوق، فهم مع خفض الأسعار كونه يزيد من عمليات البيع ويحرك عملهم، ولكن ارتفاع التكاليف يفرض حضوره في الحراك العقاري!!
في مكان آخر، وفي أحد معامل مواد البناء، تجدد الحوار عن واقع سوق مواد البناء، وكان هناك نوع من التشنج من قبل أصحاب العمل الذين كانوا حريصين على إبراز التحديات التي تواجههم في عملهم، وبيان الأسباب الحقيقية وراء هذه الفورة السعرية التي تشهدها مواد البناء والعقارات، فقد اختلفت الأرقام تماشياً مع الواقع الاقتصادي والمالي، وبرأيهم أن الأمور لم تختلف، والأرقام هي ذاتها مع اختلاف بسيط في الزمن وفي التضخم، بينما القيمة المالية الفعلية هي ذاتها، فتكلفة المتر الآن، مثلاً، ما بين 350 ألف إلى 400 ألف ليرة على المتعهد، وكذلك وصل سعر إكساء المتر المتوسط الجودة إلى ما يقارب 150 ألفاً إلى 200 ألف ليرة. وأعادوا أسباب ارتفاع الأسعار إلى عوامل متعددة في مقدمتها ارتفاع سعر القطع الأجنبي إلى مستويات غير مسبوقة، كون غالبية مواد البناء تعتمد على مواد مستوردة من الخارج، وارتفاع أجور اليد العاملة في مجال البناء في ظل انخفاض مستوى المعيشة وهجرة العدد الأكبر من العاملين في مجال البناء إلى خارج البلد نتيجة لجملة الظروف الصعبة التي مرت، وما زالت في بعض جوانبها، وغياب أي إجراء من قبل الحكومة لدعم هذا القطاع، والعقوبات الاقتصادية الخارجية التي تضيق على السوريين سبل العيش بشكل عام، والمضاربات التي يقوم بها تجار الأزمة، وخاصة مافيا العقارات في سورية على حساب المواطنين، إضافة إلى مجموعة أخرى من الأسباب، بعضها واضح والبعض الآخر عبارة عن منعكس من منعكسات الحرب، والحالة النفسية والمعيشية والاقتصادية التي يمر فيها السوريون.
عدم التناسب
الدكتور عمار يوسف، خبير في العقارات، أشار إلى أن مشكلة السكن موجودة قبل الحرب ومنذ 30 عاماً، نتيجة عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بهذا القطاع والتوجه لتأمين السكن للمواطن الذي لجأ بدوره إلى العشوائيات والمخالفات، كما لفت إلى الدور الهزيل للمؤسسة العامة الإسكان ولوزارة الإسكان، والدليل على ذلك – بحسب يوسف – الوضع الحالي وحالة الحرب التي خلفت 3 ملايين منزل مدمر بشكل جزئي أو كامل، إضافة إلى أن البنية التحتية مدمرة وخارج الاستثمار العقاري، وكل ما أنجزته المؤسسة خلال هذه الفترة الأساسية والمهمة لتأمين السكن لم يتجاوز 10 آلاف مسكن، نصفها غير مسلم وخارج إطار الاستثمار.
وتساءل يوسف: خلال هذا الدمار.. ما العمل؟، لافتاً إلى عدم وجود أي معالم واضحة للحلول التي من بينها طرح العقارات ضمن دائرة الاستثمار العقاري، خاصة أن الحكومة هي المخولة بطرح المنتج العقاري من خلال الأراضي المستملكة من قبلها، والتي تصل إلى آلاف آلاف الهكتارات التي تحتاج إلى قرار لتجهيزها وتنظيمها وطرحها للاستثمار للقطاع الخاص أو المشترك، أو من خلال طرح المخططات التنظيمية لتأمين منتج عقاري قابل للبناء بشكل نظامي. وأضاف: هناك أراضي ضمن مراكز المدن (الخزن والتبريد – المناطق الحرة – مستودعات الجمارك) عن طريق البيع أو المشاركة. واستغرب يوسف عدم التحرك إلى الآن في مسار إعادة الإعمار، وخاصة في المناطق الآمنة، لتأمين ضواحي سكنية بديلة عن المدمرة، ولفت إلى ضرورة تقديم المزيد من التسهيلات، مثل الإعفاءات بالنسبة لمواد البناء، وتفعيل القروض الطويلة، خاصة أن قيمة القرض غير كافية، هذا عدا التعقيدات الكثيرة التي تعترض من يود الحصول على هذا القرض لشراء وتثبيت سعر الصرف.
واختصر يوسف واقع السوق العقارية بالتأكيد على أن المشكلة الأزلية للعقار في سورية هي ارتفاع سعره نسبة لدخل المواطن السوري، والسبب الأساسي لهذا الارتفاع هو عدم وجود الأراضي الصالحة للبناء، حيث لم تقم أي حكومة على مدار العقود الماضية بطرح العقارات لتساهم في تخفيض سعر العقار بشكل عام، ولا يمكن بأي حال من الأحوال معالجة مشكلة ارتفاع أسعار العقار – خاصة في الوقت الراهن – بعد ما حصل من دمار غير مسبوق في البنية العقارية إلا من خلال إيجاد منظومة جديد للمعالجة تضمن السرعة في الانجاز وتأمين البيئة القانونية والإدارية اللازمة للعمل المتسارع في المشاريع العقارية، وتأمين الأراضي اللازمة للقيام بها بعيداً عن الفساد الإداري وتحكم تجار البناء ومافيا العقار برقاب المواطنين لتحقيق مصالحهم الشخصية.
بالمحصلة
انعكاسات الفورات السعرية في السوق العقارية تطال حلم ومستقبل المواطن من النواحي كافة، فهي ذات تأثير اقتصادي واجتماعي وبنيوي في الأوساط الشبابية التي تتلاشى أبسط أحلامها وأمالها على أرض بلدها، بما يجعلها رهينة الغربة والبحث عن المستقبل وراء البحار، هذا عدا عن انعكاس ارتفاع الأسعار بشكل جنوني على فرص العمل مع انكماش تدريجي في سوق العمل داخل قطاع التشييد والبناء.
ومع الإقرار بضخامة التحديات في شتى المسارات، ومنها موضوع الإسكان، في هذه الآونة، لابد من إيجاد منظومة عمل قادرة على التجاوب من المستجدات، وخاصة في قطاع البناء وسوق العقارات الذي أسقط أصحاب الدخل المحدود من قوائم الامتلاك، فأزمة ارتفاع أسعار مواد البناء زادت من فاتورة التكاليف، وكان لها تداعيات على السوق العقارية التي تضاعفت أسعارها مرات عديدة لتواكب حالة الفوضى السعرية الموجودة في جميع الأسواق. ورغم ذلك، فالحلول موجودة وليست مستحيلة كما يشاع، فتوفير الأراضي سيكون له انعكاس إيجابي على أي فاتورة، وذلك بالتشارك مع القطاع الخاص..
إذاً، المؤشرات الأساسية في البورصة العقارية بمساراتها التصاعدية تلزم الجهات صاحبة القرار بتفعيل دورها، بالاستناد إلى الدستور والقوانين المعمول بها.. وبصراحة أكثر، الأمر مرهون بتوفر الجهة القادرة على تنفيذ هذا المشروع دون أن يخترقها الفساد، فهل هذا صعب المنال؟