دراساتصحيفة البعث

وراء شرك “التكنوقراط” و”وزراء الكفاءة”.. دراغي رئيساً للحكومة الإيطالية

سمر سامي السمارة 

عقب أسابيع من أزمة غير مسبوقة في ثالث اقتصادات منطقة اليورو، أدّى ماريو دراغي اليمين الدستورية رئيساً للحكومة الإيطالية الجديدة، إذ حصل على ثقة مجلس النواب بغالبية ساحقة، كما حدث قبل يوم في مجلس الشيوخ، وبات بذلك يحظى بتوافق واسع من أجل “إعادة بناء” البلاد المتضررة جراء الأزمة الصحية والاقتصادية. ودراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، حصل وفريقه على دعم 535 نائباً مقابل 56 معارضاً، فيما امتنع خمسة نواب عن التصويت، وكان هذا التصويت الخطوة الأخيرة لمنح الشرعية للحكومة الجديدة. وكان دراغي حصل على تأييد 262 من أعضاء مجلس الشيوخ مقابل أربعين عارضوا منح الثقة له، وامتناع اثنين عن التصويت. وقال بعد فوزه بثقة البرلمان: “لم تسجّل حياتي المهنية الطويلة لحظة مفعمة بهذا القدر من التأثر والشعور بالمسؤولية”.

على هذا النحو، يترأس خبير الاقتصاد، البالغ من العمر 73 عاماً، حكومة وحدة وطنية جديدة تحلّ مكان ائتلاف جوزيبي كونتي “يسار الوسط”، الذي انهار قبل أكثر من شهر؛ وسوف يقود دراغي بلاده لتجاوز التداعيات المدمرة لوباء كوفيد-19، إذ يتولى منصبه في خضم أزمة فراغ سياسي، واقتصاد متدهور، ووباء تسعى إيطاليا للسيطرة عليه عبر حملة تطعيم طموحة، هذا إضافة إلى ملفات أخرى تعود لعقود مضت وسيجد نفسه مضطراً لمعالجتها، وهي تسريع عمل القضاء، وتصحيح البيروقراطية لتصبح الإدارة أكثر فعالية، وإطلاق عملية التحول البيئي التي ستنسقها الوزارة الجديدة المخصّصة لهذه الغاية، والأولى من نوعها في إيطاليا.

ومنذ كلفه ماتاريلا، في 3 شباط، بتشكيل الحكومة، أجرى دراغي مشاورات مع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، والتي سمحت له بتشكيل فريق متنوع من الحزب الديمقراطي “يسار وسط” ورابطة الشمال “يمين متطرف” بزعامة ماتيو سالفيني، وحزب فورتسا إيطاليا “يمين” الذي يتزعمه سيلفيو برلوسكوني، وفي اللحظة الأخيرة، أعطت حركة خمس نجوم -التي لطالما كانت مناهضة للمؤسسات التقليدية إلى أن وصلت إلى السلطة- موافقتها أيضاً خلال تصويت إلكتروني، كان آخر عقبة أمام تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

التحدي الأكبر

في عام 2012، نال رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق إشادة دولية بعد أن تعهد بفعل “كل ما يلزم” لإنقاذ اليورو من الانهيار، وهو الوعد الذي كان بمثابة نقطة تحول في أزمة الديون السيادية في القارة. واليوم، يواجه دراغي تحديات بالغة بقدر متساوٍ، إن لم يكن أكبر، تتمثل بقيادة إيطاليا نحو التعافي من جائحة كورونا. وبدعم من تحالف سياسي واسع النطاق وحصوله على الإذن بإنفاق ما يقدّر بنحو 200 مليار يورو على شكل منح وقروض من صندوق الإنعاش الأوربي، يدخل دراغي في هذا الدور من موقع القوة، لكن تحويل الآفاق الاقتصادية لإيطاليا بعد سنوات من التوعك الاقتصادي لن يكون مهمة سهلة، حتى بالنسبة لرجل يُلقب بـ”سوبر ماريو”.

يتولى دراغي زمام الاقتصاد الذي لا يزال يكافح للتعافي من الأزمة المالية العالمية التي نشبت منذ عام 2008، إذ شهد عام 2019 نمواً ضئيلاً للناتج الاقتصادي بنسبة 0.3٪ فقط عن العام السابق، مقارنة بـ 1.6٪ للاتحاد الأوروبي ككل.

وبحسب إريك نيلسن كبير الاقتصاديين في مجموعة “يوني كريديت” المصرفية الإيطالية، فإن “المشكلة الأساسية والأكثر أهمية في إيطاليا تكمن في أن الناتج الاقتصادي لم ينم بما يكفي لسنوات عديدة، وقد جعل كوفيد-19 الأمور أسوأ بكثير، إذ تقلص الاقتصاد بنسبة 8.8٪ العام الماضي. وفي حين يُنتظر الانتعاش في عام 2021، ما يساعد على توسيع الاقتصاد بنسبة 3.4٪، تشعر المفوضية الأوروبية بالقلق من أن إيطاليا قد تستمر في التخلف عن الركب لسنوات.

وقد اعلنت المفوضية في توقعاتها مؤخراً أنه “بينما من المتوقع أن ترى بعض الدول الأعضاء أن العودة إلى مستويات ما قبل الأزمة أصبحت قريبة بحلول نهاية عام 2021، إلا أن دولاً أخرى قد تستغرق وقتاً أطول”، وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لإسبانيا وإيطاليا.

ومع ذلك، يتمتع دراغي بميزة يفتقر إليها العديد من أسلافه، وهي التفويض بإنفاق مبالغ طائلة، إذ تمّ تخفيف القواعد المالية المعمول بها في الاتحاد الأوروبي، وتقوم الدول الأعضاء الأكثر ثراء بتسليم الأموال وتقترض بروكسل نيابة عن إيطاليا.

تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا 154٪، وتأتي في المرتبة الثانية في أوروبا بعد اليونان، وتتطلب تكاليف مصروفات خدمة الديون مبالغ ضخمة من ميزانية الدولة.

وبحسب نيلسن، فقد جعل البنك المركزي الأوروبي الديون ميسرة للغاية من خلال دفع أسعار الفائدة إلى المنطقة السلبية وإطلاق برنامج ضخم لشراء السندات، ما يعطي دراغي مهلاً طويلة للغاية.

ويرى فيديريكو سانتي، كبير المحللين في مجموعة “أوراسيا”، أن دراغي “لن يضطر إلى تنفيذ برامج تقشف صارمة”.. و”بدلاً من ذلك، ستستفيد الحكومة الجديدة من الانخفاض القياسي لتكاليف الاقتراض، ومن تمويل الاتحاد الأوروبي على نطاق واسع، بينما يظل الاتحاد الأوروبي داعماً للحوافز المالية في الوقت الحالي”.

“فرصة” غير عادية 

يمكن للطريقة التي يختارها دراغي في الإنفاق على تعافي إيطاليا أن تحدّد فترة ولايته ومستقبل البلاد لسنوات قادمة، ويرى نيلسن إنه من الأهمية بمكان أن يدفع دراغي، على الفور، بجولة أخرى من الإنفاق والتخفيضات الضريبية لوضع اقتصاد البلاد على المسار الصحيح مجدداً، ويؤكد أن جزءاً لا يتجزأ من هذا الجهد يجب أن يعتمد سياسات لمعالجة مشكلات مثل انخفاض مشاركة القوى العاملة، والتي تؤثر على الإنتاجية، كما يمكن للحكومة أن تشجع المزيد من الناس للبحث عن فرص عمل عن طريق الحسومات الضريبية على الدخل الثاني، ودعم رعاية الطفولة، وتقديم حوافز للشركات لتقديم عمل بدوام جزئي.

ووفقاً لـ نيلسن: “تلك ثمار معلقة حقاً، يتعيّن على حكومة دراغي متابعتها لأنه تم اختبارها وتنفيذها في جميع البلدان الأوروبية الأخرى تقريباً”، ويحتاج دراغي أيضاً لوضع الصيغة النهائية بشأن كيفية إنفاق مئات المليارات من الدولارات التي خصصها الاتحاد الأوروبي لإنعاش الاقتصاد، وتعتبر إيطاليا من بين أكبر المستفيدين من البرنامج الذي سيمول استثمارات في التنمية الرقمية والمستدامة.

إدارة السياسات الفوضوية 

من المتوقع أن تكون هناك تفاصيل إضافية خلال الأيام المقبلة، ومع ذلك ثمة مخاوف فعلية من أن السياسات المتصدعة يمكن أن تقوض موجة الدعم الأولية لرئيس الحكومة الجديدة. إذ، ورغم إجماع كافة الأحزاب السياسية في إيطاليا -باستثناء حزب “أخوة ايطاليا” اليميني- على دعم الحكومة الجديدة، وإعراب المراقبين عن ارتياحهم لأن حكومة دراغي تضم مزيجاً صحياً من التكنوقراط والسياسيين من مختلف الانتماءات، إلا أن شبح المعارضة لا يزال يلوح في الأفق، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنفاق الأموال من صندوق الإنعاش الأوروبي، إذ تسبّب الخلاف على هذه الجبهة في انهيار ائتلاف جوزيبي كونتي، سلف دراغي. وكما يرى جاك ألين رينولدز، كبير خبراء الاقتصاديات الأوروبية لدى “كابيتال إيكونوميكس”، فإنه “حتى مع الدعم الواسع لقائمة أولويات دراغي، والتي تُعنى بالصحة والوظائف والأعمال التجارية والمدارس والبيئة، لا يزال الكثير من التفاصيل غامضاً، وهناك احتمال كبير لنشوب توتر داخل الحكومة حول ما يجب القيام به بشأن قائمة الأولويات. وترى باولا سوباتشي، أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة “كوين ماري” في لندن، أن أفضل ما يمكن أن يفعله دراغي هو الالتزام بالعمل كرئيس للوزراء لمدة عامين على الأكثر، وإجبار الآخرين على مواصلة تعزيز تنفيذ سياسة مستدامة؛ كما حذّر مركز الإصلاح الأوروبي من “حقيقة أن حكومة دراغي تعتمد على دعم مجموعة متباينة من الأحزاب السياسية، ما سوف يحدّ على الأرجح من قدرته على المناورة، وسيجعل من التوصل إلى توافق أمراً صعباً”.

يرى المعارضون لدراغي أن فلسفته السياسية تقوم على فكرة زيادة الإنفاق العام بدلاً من التقشّف، ويعني ذلك أن الإنفاق لا ينبغي أن يُوجَّه للجميع، بل لدعم الشركات العالية الإنتاجية حصراً لأغراض تحسين قدرتها التنافسية وفق مشورة البنوك وخبراء القطاع الخاص؛ كما يعتقد أن الحوافز الحكومية يجب أن تنفَق “على خلق فرص عمل جديدة، وليس لإنقاذ الوظائف القديمة”، مع تنفيذ إصلاحات هيكلية واسعة تشمل تخفيض مستوى الرعاية الاجتماعية، وقوننة المرونة الكاملة لعقود العمل، وتمديد سنوات العمل قبل التقاعد، وحصول المتبطّلين على إعانات مؤقتة فقط.

ولذلك، يبدو واضحاً أن تدخُّل الدولة خلال عهد دراغي سيكون مُوجَّهاً لصالح الطبقة البورجوازية الحاكمة، فيما ستنتهي مليارات الصندوق الأوروبي في جيوب عدد قليل من الشركات الكبرى ذات الارتباطات العولمية. ووراء شرك “التكنوقراط”، و”وزراء الكفاءة”، ولافتة “الوحدة الوطنية”، سيتمّ سحق الطبقة العاملة والجزء الأضعف من المجتمع والأكثرية المفتقدة بشدّة للتمثيل السياسي.

وبحسب موقع “بوليسي سونار” للتحليل السياسي، فإنه “في السياسة كما في الطبيعة هناك دورات من شهر العسل إلى القمة فالانحدار.. وحتى دراغي عاجز عن تحدي هذا القانون”.. “ولكنه الآن في مرحلة شهر العسل”.