بين فشل التجربة والعودة إليها بآليات جديدة.. أسواق طرطوس الشعبية أضاعت شعارها في زحمة التدخلات والتهم المتبادلة!!
“البعث الأسبوعية” ــ لؤي تفاحة
لم يعكس شعار من “المنتج إلى المستهلك”، الذي اعتمدته الجهات الوصائية، والتزمت به الجهات التنفيذية من الوحدات الإدارية وغيرها، ومن خلفها عموم المستفيدين من مزارعين ومستهلكين، حالة الرضا التي منّت بها تلك الجهات نفسها لجهة إحداث حالة من التشاركية المنتجة لطرفي العلاقة من خلال اعتماد تجربة “الأسواق الشعبية”، وذلك نظرا لجملة من الثغرات والفوضى التي يراها البعض طبيعية كون الفكرة جاءت على عجل، من دون إنجاز الدراسة الفنية والمالية، وحتى دون مناقشة الطرف الأول المعني – وهو المزارع – بكل ما يتعلق بتعبه وجهده بشيء من التفصيل والتروي، وأيضاً معايرة منسوب التوفير الذي يبحث عنه المستهلك لقاء بحثه عن ضالته المنشودة في هذا السوق أو ذاك، هذا إذا ما استثنينا أسباباً أكثر تعقيداً، ومنها آليات العمل وإشراف الجهة المسؤولة ودور اتحاد الفلاحين الحاضر الغائب بعد أن تم “قصقصة” أجنحته من قبل مدراء الأسواق وسطوتهم على السوق، لينتهي الأمر بإيقاف العمل بهذه الأسواق – مرحلياً – لحين إعادة النظر وتقديم دراسة جديدة..!
“البعث الأسبوعية” تعيد فتح ملف “الأسواق الشعبية”، رغبة منها في إماطة اللثام عن الهواجس والمبررات والمعوقات والصعوبات التي رافقت التجربة، إضافة إلى متابعة بعض الحيثيات والتفاصيل والآليات التي اعتمدتها المحافظة علّها تحقق الهدف من المنشود من الشعار المعلن.
ضحية السوق
يروي المزارع أبو حسان، الذي أسعدته فكرة بيع ما تنتجه أرضه في سهل عكار من منتجات مختلفة، كالبندورة والباذنجان والبطاطا، وغيرها، وذلك نظراً لما كان يتعرض له من ابتزاز وتبخيس فاضح لأسعار محصوله من قبل تجار سوق الهال، ما كان يتسبب له بخسائر كبيرة!!
ولكن – للأسف – يتابع أبو حسان: فجأة غاب شعار من “المنتج إلى المستهلك” من السوق، وبتنا نرى سماسرة وأنصاف تجار ومتطفلين تحت مسمى مزارعين يبيعون بضاعتهم بشكل مخالف حتى للنشرة التموينية، بالإضافة إلى تحكم مدير السوق بعملنا اليومي، وابتزازنا بشكل غير مباشر من خلال أشخاص مكلفين تحت يافطة “جماعة المدير”، وفي حال رفضنا تتم معاملتنا بشكل غير لائق”.. ينهي أبو حسان كلامه بالإشارة إلى أنه تم توقيف أكثر من شخص بسبب هذه الحادثة!!
بدوره، يقول المواطن أحمد علي: كنت من زوار السوق الشعبي على ضفة نهر الغمقة، وكنت أرى هامشاً مقبولاً من التوفير مقارنة بالسوق الملاصق لمنزلي، إلا أن هذه النعمة لم تدم طويلاً، فسرعان ما أصبح السوق مشابهاً لسوق حارتنا، فضلاً عن تدني نوعية المادة وندرتها، الأمر الذي اضطرني للعزوف عن زيارته اليومية، والتي كانت فرصة أيضاً للقاء الأصدقاء والتعرف على آخرين تجمعنا معهم ذات المسؤولية ويوحدنا الهم الواحد..!
الحاضر الغائب
كان لافتاً ذلك التململ والنفور من قبل اتحاد فلاحي طرطوس وشكواه المستمرة من آلية العمل وسطوة الوحدة الإدارية الممثلة بـ “مدير السوق”، وإصراره على إبعاد التنظيم الفلاحي عن أي دور يمكن له أن يلعبه، بل وتهميشه، رغم أن المزارع يدخل السوق بناء على كتاب من الاتحاد – كشرط أولي – لكي يتم وضع اسمه من ضمن العاملين في السوق، لينتهي هنا دوره، وهو ما لم يكن ليرضي الاتحاد الذي كان يبحث عن حضور أكبر يعزز من خلاله فعالية التنظيم كونه الممثل الشرعي له.
وفي هذا السياق، يقول محمود ميهوب، رئيس اتحاد فلاحي طرطوس: بعد قرار إحداث الأسواق الشعبية، وخلال المرحلة الماضية، تمثل دور اتحاد الفلاحين في تأمين الأخوة المزارعين المشاركين في هذه الأسواق تحت شعار “من المنتج إلى المستهلك”، ولكن في مرحلة لاحقة تم تفويض أمور السوق إلى المحافظة والوحدات الإدارية، ومنها بلدية طرطوس، حيث تم إعطاء أذونات للعمل، وبالأسماء التي تم ترشيحها من قبل اتحاد الفلاحين؛ وقد تم تعيين مدراء لهذه الأسواق من قبل الوحدات الإدارية، ما أتاح المجال بالتالي لدخول أشخاص من غير المنتجين الحقيقيين، الأمر الذي أدى إلى إلغاء شعار “من المنتج إلى المستهلك”!
ويتابع ميهوب أنه لدى تدخل الاتحاد لمعالجة المشكلة، تم إعلامه – أي الاتحاد – من قبل مدراء الأسواق بأن الموضوع من اختصاص البلديات، ولا علاقة للاتحاد بذلك، ما أدى إلى إقصاء أغلب المنتجين الحقيقيين عن السوق، وبالتالي أصبحت الأسعار في معظم هذه الأسواق مشابهة تماماً لأسعار أي بائع مفرق!!
ولفت ميهوب إلى أن عزوف المزارعين عن الاستمرار بالعمل في هذه الأسواق سببه الأساسي كثرة المضايقات التي كانوا يتعرضون لها من قبل مدراء الأسواق، وحتى من التجار الذين دخلوا إلى السوق على حساب المزارع، الأمر الذي أدى لفشل التجربة وإغلاق الأسواق – مؤقتاً! – بهدف إعادة تنظيمها وفق أسس جديدة، لافتاً إلى أن الاتحاد طالب بوضع ممثل عن الفلاحين في لجان الأسواق، وإصدار تعليمات تضمن مشاركة المنتجين الحقيقيين بموجب ثبوتيات صادرة عن الجمعية الفلاحية والوحدة الإرشادية، آملاً صدور نتائج إيجابية مشجعة للمزارع، وكذلك للمستهلك، بما يعكس ويترجم شعار “من المنتج الحقيقي للمستهلك”.
مدينة طرطوس توضح
يمكن القول إن المشاكل والأسباب التي أدت لفشل تجربة الأسواق بشكل جزئي ظهرت جلية في أسواق المدينة بالدرجة الأولى، وذلك بسبب كثرة المتدخلين من أصحاب القرار، وكذلك المتنفذين، لصالح شريحة لا علاقة لها أساساً بالزراعة، وإنما هي عبارة عن مجموعة من بعض التجار “الصغار” الذين وجدوا فرصتهم في هذه الأسواق على حساب المزارع الذي يأتي بمحصوله، وبما تنتجه أرضه، منذ الصباح الباكر، ويضطر للعودة إلى قريته قبل أن تسدل شمس النهار ستارتها الذهبية خلف أمواج البحر، الأمر الذي يدفع الكثير منهم لطرح ما بقي لديه من بضاعة – لم يتم تصريفها – في محلات أخرى، ولأسباب مختلفة أيضاً، وإعادة طرحها في الأسواق الشعبية.
هنا، يوضح مدير مدينة طرطوس المهندس مظهر حسن – مدافعاً عن دور مدينة طرطوس – أنه، وبعد عقد عدة اجتماعات برئاسة المحافظ، تم تكليف اتحاد الفلاحين بمنح استمارة دخول إلى السوق، وهذه الاستمارة موقعة من الجمعية الفلاحية والوحدة الإرشادية؛ وعليه انحصر عمل إدارة السوق العائد للمدينة بتدقيق الاستمارة وتخصيص مكان لحامل الاستمارة، وجراء التقيد اليومي لضمان عدم دخول أو وجود دخلاء أو أشخاص غير حاملين للاستمارة المقدمة من التنظيم الفلاحي، والمصدقة من الوحدة الإرشادية، فقد اكتملت الأسواق بالمنتجين خلال أسبوعين بشكل كلي، وخاصة أسواق الغمقة والرابية، وبعدها أصبح المجلس يعتذر عن قبول عارضين جدد في هذه الأسواق المكتملة. ولكن بسبب استمرار اتحاد الفلاحين بمنح المزيد من الموافقات، ما دفع بالتالي حاملي الاستمارات لممارسة العمل التجاري في الأسواق عن طريق دعم منتجاتهم بمنتجات من سوق الهال بهدف التجارة والربح الزائد، قامت المدينة بمخاطبة اتحاد الفلاحين عن طريق المحافظ بطلب التدقيق في الاستمارات الممنوحة، وضرورة تحديد المنتج والأنواع، حسب الروزنامة الزراعية؛ ومع ذلك لم يتم التقيد من قبل حاملي الاستمارات، ولا حتى أي تدخل من قبل اتحاد الفلاحين لضبط حالة تحول المنتج إلى بائع يقوم بتوريد بضاعته من سوق الهال، وبالتالي لم تنكسر حلقة الوساطة التي تم إنشاء الأسواق الشعبية على أساسها من أجل كسرها!!
ولفت حسن إلى أن الأسواق في بداية عملها حققت أهدافها بشكل مباشر عن طريق بيع المنتجات بأسعار أقل من بقية الأسواق ما بين 10 – 25% كحد أدنى، ولمس المواطن هذا الفارق بشكل حقيقي، وأحدثت الأسواق حالة من المنافسة؛ ولكن بعد مضي فترة، وبسبب انحراف عمل هذه الأسواق عن أهدافها الحقيقية، صدر قرار من المحافظة بإيقاف مؤقت لعملها، وذلك بهدف ترتيبها وتنظيمها على أسس مدروسة، ووفق آليات جديدة، ومنها الطلب بضرورة تواجد مراقب تمويني لضبط الأسعار ومنع التلاعب بها أو زيادتها بما يخالف الهدف المعلن.
آلية جديدة
بغية إعادة النظر بعمل هذه الأسواق، طلب محافظ طرطوس العمل على وضع آلية جديدة أكثر فعالية لضبط عملها ونجاح تجربتها، بما يعكس شعارها بشكل ملموس، وبحسب رئيف بدور عضو المكتب التنفيذي المكلف بهذا الملف، فقد تم وضع آلية جديدة لإدارة الأسواق، ولا سيما الموجودة ضمن المدينة، باشتراطات منها العمل على تنظيف السوق بشكل يومي عند الانتهاء من العمل، والإعلان عن إغلاق الأسواق عند الساعة 12 ظهراً، وأن تكون الأسعار أدنى من بقية الأسواق ما بين 10 – 30%، إضافة إلى الالتزام بكافة الاشتراطات والإجراءات التي يتم تحديدها من قبل إدارة الأسواق ومجلس المدينة الذي يعتبر هو الجهة المشرفة المباشرة على عمل هذه الأسواق.
ولفت بدور إلى أن هذه الاشتراطات سوف تحد من تدخل بعض التجار، وخصوصاً عند تحديد مواعيد إغلاق الأسواق، مشيراً إلى أن جديد هذه الأسواق تفعيل حضور المجتمع الأهلي، حيث تم الترخيص لبعض الفعاليات الخاصة التي ستعمل على تقديم المنتجات الريفية والنسائية بأسعار منافسة وحقيقية، بما يعزز من الحضور الفاعل للمجتمع الأهلي وللجمعيات الخيرية التي ترغب بالعمل في هذه الأسواق وفق الاشتراطات والإجراءات المحددة، الأمر الذي من شأنه إحداث حالة من التشاركية بين المنتجين والمستهلكين.
لكي لا يتكرر الفشل ثانية
مع عودة العمل ببعض هذه الأسواق، ومنها سوق الرابية الذي تم إعادة افتتاحه رسمياً مؤخراً، من المهم التقيد بالأسس والآليات التي تم اعتمادها، مع ضرورة الأخذ ببعض التوصيات والمقترحات والتي يطالب بها رواد السوق، ومنها أن تكون مدة العمل أطول، أي إلى ما بعد خروج الموظفين من عملهم لكي يتسنى لهذه الشريحة تأمين ما تحتاجه، وكذلك تجهيز هذه الأسواق بالبنى التحتية من مرافق خدمية كاملة، لا سيما وأن الأموال التي تم رصدها – بحسب معلومات رسمية – لتجهيز هذه الأسواق فقط ضمن المدينة تتجاوز الـ70 مليون ليرة، وبالتالي فمن الضروري تأمين هذا المبلغ وغيره مما سيتم رصده لإنجاز بنية تحتية تليق برواد الأسواق الشعبية.