شباط الحب ورحيل من نحب.. بغياب المكحلين يفقد فن الحفر أعمدته تباعاً!!
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
قد تكون لهذه الرمزية في التوقيت الكثير من الدلالات التي يحلو لكل فنان مرهف الحس أن يؤولها بما تشتهيه النفس التواقة للجمال.. بحوث نقدية، والكثير من الدراسات، كلها ستستهل يوماً مقدمتها على أن مبضع الجراحين في الفن – أداة الحفر الخالدة – في قسم الحفر والطباعة (الخشبية والحجرية والمعدنية والشاشة الحريرية) في كلية الفنون الجميلة، وقلب العاصمة دمشق، كانت على موعد متقارب في رحيلها عن أنامل سادة من سادات اللوحة الغرافيكية في الوطن.
نبيل رزوق، وبعده بأيام عبد الكريم فرج – مع حفظ كامل ألقاب التقدير والإجلال لاسميهما – رحلا معاً تاركين القاعات، المعبأة برائحة الأسيد وتفاعل الورنيش والحبر، يتيمة، تشعر بفقرها المدقع، كل مرة حين يرحل عن عالم اللوحة التشكيلية السورية عماد من أعمدة فن هنا، أو مدرسة فنية هناك.
شغل الراحلان حيزاً كبيراً – أشك بأنه يمكن ملؤه – لما كان لديهما من حب قبل الفن، حب للعطاء والبذل كنا نحسه – نحن طلابهما – وحب وإشفاق على اللوحة التي بين أيدينا، وكأنهما كانا حراس عتبات الجمال لا يسمح لأحد منا – نحن طلابهما – أن يمرر لوحة ما، دون أن تكون استكملت كل طقوسها الخاصة في مراحل الإتقان.
أثناء دراستي في قسم الحفر والطباعة، كان فريق الكادر التدريسي – ومنه الراحلان – يكثف البذل والعطاء لكل فرد منا. وكان هناك سباق مع الزمن فيما بينهما لتوريث “الكار” بكل ما أوتيا من قدرة، خوفاً من مجهول – هما يدركانه – عن مستقبل الحفر والطباعة، ومعضلات الولوج في عالم التقانات الحديثة، بين عالمين كان أساتذة الحفر والطباعة يقفون مدمغين جباهنا بالحبر الأسود كي لا ننسى أن أعلى قدرات أي فنان تكمن في قدرته على تطويع الأسود، واستنباط الضوء ونضوحه من بين عتماته.
نبيل رزوق (دمشق، 1949 – 2021)
هذه الأرقام أقل من أن ترصد بين دفتيها حياة فنان.. فنان برع في مجال الحفر والطباعة، وفي كيفية إظهار البيئة الشعبية، والخصوصية السورية، في الثياب والعمران والوجوه، وكان متمرداً على قدرة الأسود وحده على التعبير عما يجول في خلده، فكان يقول لنا مراراً: “الحفر لا يعني فقط الحبر الأسود، الغرافيك هو تناسق كل لون تجدونه في الطبيعة، وتوظفونه في اللوحة؛ ولا تهم تقنية التوظيف بقدر ما تهمنا قدرة التوصيل للأفكار”؛ لذلك تخلى الفنان نبيل رزوق في الكثير من لوحاته عن التقليدين الأسود والأبيض، وغرق بحريره الخاص في مجال الطباعة عبر الشاشة الحريرية.. كان يغرق في العمارة المتقنة للوحة، ولتعبيره الأكبر عن العمارة الشعبية السورية.
بهدوئه المعهود كان يجول بيننا في وقت دروسه في قسم الشاشة الحريرية، ويشرف على تطابق الألوان في الشاشات الحريرية ويضبط إيقاع اللون، لو سمح لي الحديث المطول عما استفدته منه لعددت مناقب كثيرة كان أهمها عندي هو الفهم الصحيح لآلية عمل الشبكة الحريرية وتطويرها فيما بعد لتصبح قدرة على معايرة الألوان بطبقاتها في المطابع وفي تعاملي اللاحق مع التناسقات اللونية وكيفية مزج الألوان فيما بينها لاستنباط ألوان طباعية لائقة.
عبد الكريم فرج (السويداء، 1943 – 2021)
]”مناطرة” المحبوبة تشبه “مناطرة” التفاعل الحمضي لسطح المعدن وهو يحفر بين زوايا الورنيش، منتقماً من عري المعدن”[.
أفضل الأحاديث كانت تدور بيننا كطلاب وبين الدكتور الفنان عبد الكريم فرج في تلك الهنيهات، ونحن ننتظر استكمال تفاعل المعدن والحمض.. حرب لا بد كل مرة أن نترجى القدر كي يساعدنا في ضبط إيقاع الأخاديد، فلا المكبس المعدني يمزق زوايا الورق الطري، ولا الحبر يخذلنا ويصبح باهتاً خجولاً. وكم من مرة أمسكنا بيده من الكتف كي لا نتسرع في إزالة الحمض عن المعدن، ولسان حاله يقول: “الصبر جميل، لندعها تستغرق ما يحلو لها من وقت هناك”.
إلى سوق النحاسين في دمشق القديمة، قرب قلعتها، كانت رحلاتنا الدؤوبة كل حين لجلب قطع من صفيح النحاس المصقولة لتكون أرض معركتنا؛ نحفر فيها بمسمار الحفر أخاديد اللون الأسود.
كان في مكتبته، في غرفته، داخل القسم، كتاب ضخم عن أهم أعمال رامبرانت، الحفَّار الهولندي الأشهر، وسيرة حياته؛ وكان يحلو للراحل فرج أن يتحدث عن حياة الحفارين العظام، ويحفزنا أن نقتدي في حياتنا ككل، وليس في الفن وحسب، بسيرهم في استلهام خطوطنا الخاصة.
الحبر، وإن فاض بالجمال والحب عن مآقي الشاشة الحريرية، أو عن سطح لوحات النحاس، فإن دمعه سيظل غزيراً كلما ذكرناهما في المحافل والمناسبات والجلسات الفنية.. الحبر يقف هناك بإجلال، على مدخل كلية الفنون الجميلة، مودعاً فنانين أحبة رحلوا في طريق الغرافيك السوري الثمين.