مجلة البعث الأسبوعية

غموض ألمانيا الأطلسي.. أوروبا تخلت عن استقلاليتها وبرلين تعيق وقوف القارة العجوز على قدميها بدعمها للنزعة الأطلسية المتطرفة  

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

الآمال في إعادة إطلاق مذهلة لمحرك الاتحاد الأوروبي الفرنسي الألماني بعد الخروج البريطاني “البريكست” لم تتحقق حتى الآن، وعلى العكس تماماً، فبعد أن وجدت باريس وبرلين نفسيهما بدون “العجلة الثالثة” البريطانية، يبدو أن كل قضية تقريباً تثير نزاعاً بين الثنائي الألماني الفرنسي، وسواء تعلق الأمر بالتعاون في مجال التسلح، أم بإمدادات الطاقة من موسكو، أم بالسياسة تجاه تركيا، تستمر الخلافات الفرنسية الألمانية في الارتفاع إلى السطح؛ وقد لفت أحدها الكثير من الاهتمام مؤخراً لأنه يتعلق بطبيعة أوروبا ذاتها، وارتباطاتها بالولايات المتحدة: مسألة ما إذا كان على أوروبا – بمعنى الاتحاد الأوروبي – أن تسعى إلى مزيد من “الاستقلال الذاتي الاستراتيجي”، وكيف؟ وعلى الرغم من أن المصطلح بات مرتبطاً بالرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، إلا أن المفهوم يعود إلى قرابة 60 عاماً، إلى أول رئيس للجمهورية الخامسة، الجنرال شارل ديغول. إن فهم تاريخ السجال الفرنسي الألماني حول الاستقلال الاستراتيجي يمكن أن يوفر سياقاً أكبر للمناقشات الحالية، ويشجع على إدارة مبادرات سياسية جديدة لصالح كل من الأوروبيين والأمريكيين. وحتى لو كان ذلك يعني أيضاً أننا يجب أن نعترف بأن مثل هذه المشاكل الدائمة لن تحل بحلول بسيطة: “الألمان يخضعون أنفسهم بالكامل لقوة الولايات المتحدة. إنهم يخونون أوروبا”. هذه ملاحظات ديغول الغاضبة في وقت المصادقة على معاهدة الإليزيه الفرنسية – الألمانية من قبل برلمان ألمانيا الغربية، في عام 1963، التي ارتسمت على الأرجح في أذهان الدبلوماسيين الفرنسيين مؤخراً. إذا حكمنا من خلال توقيت الخلاف الحاد والرفيع المستوى حول “الاستقلال الأوروبي”، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية وبعدها مباشرة، فإن العلاقات عبر الأطلسي، اليوم، كما كان الحال في السابق، في قلب الخلافات الفرنسية الألمانية. في الواقع، دأبت الحكومات الألمانية المتعاقبة على الممارسة نفسها: من ناحية، إغراء باريس باحتمال العمل معاً من أجل أوروبا “الأوروبية”، ومن ناحية أخرى، إعادة طمأنة الولايات المتحدة إلى ولائها الأطلسي الراسخ (خاصة في مجال الدفاع، حيث لا خيار حقيقياً لبرلين).

 

تدافع وتجاذب

في فرنسا، يُنظر إلى المصير الملتوي لمعاهدة الإليزيه على أنه الخطيئة الأصلية. كان المقصود من الاتفاقية، في نظر ديغول، أن تصبح أداة لتعاون سياسي استراتيجي أوثق، ووسيلة لتحرير البلدين من التدخل الخارجي. لم يشر النص – عن عمد – لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو للولايات المتحدة أو للمفاوضات الجارية آنذاك لجلب بريطانيا العظمى إلى “المجموعة الاقتصادية الأوروبية”. ومع ذلك، وافق البرلمان الألماني (البوندستاغ) على المصادقة بشرط “إضافة ديباجة” أبطلت – حسب الفهم الفرنسي – الهدف من هذه المعاهدة.

أكدت الديباجة الجديدة على كل جزء “مفقود”: الشراكة الوثيقة مع أمريكا، والدفاع الجماعي والتكامل العسكري في إطار الناتو، والانضمام البريطاني إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، والتحرر من التعريفات التجارية الدولية؛ كما شددت صراحة على أن “التعاون الفرنسي الألماني الذي يسترشد بهذه الأهداف سيعود بالفائدة على الشعبين الألماني والفرنسي”. ومنذ ذلك الحين، لم يتغير الكثير، وكما لاحظ رئيس البرلمان الأوروبي السابق، بات كوكس، مؤخراً، فإن “الاستقلالية الاستراتيجية هي مصدر توتر بين فرنسا وألمانيا اللتين لا تريان وجهاً واحداً بشأن المدى الذي يمكن لأوروبا أن تعتمد عليه أو لا يزال عليها أن تعتمد على الولايات المتحدة”. وفي هذا الصدد، كانت رئاسة ترامب ملفتة للنظر. واستشعاراً للشكوك الأوروبية الناشئة حول مصداقية الضمانات الأمنية الأمريكية، وقف الرئيس ماكرون ليصرح، في تشرين الثاني 2019، في مقابلته سيئة الصيت في الإيكونوميست عن “الناتو الميت سريرياً”: “في رأيي، أوروبا لديها القدرة للدفاع عن ذاتها”. وكما هو متوقع ضغطت ألمانيا على الفرامل، وردت المستشارة أنجيلا ميركل على نحو مدوّ: “في الوقت الحالي، لا تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها بمفردها.. نحن نعتمد على الناتو!”.

بعد عام واحد، أوضحت وزيرة الدفاع الألمانية، انغريت كرامب كارينباور أن “أوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي يجب أن تنتهي، بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الأمريكية.. لن يتمكن الأوروبيون من ذلك، ولن تستطيع أوروبا الحلول محل الدور الحاسم لأمريكا كمزود للأمن”. بعد فوز جوزيف بايدن، أصبحت باريس حذرة من الإغراء المتزايد في العواصم الأوروبية للتنازل عن الطموح الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. عرض ماكرون، مرة أخرى، الرؤية الفرنسية: “هل التغيير في الإدارة الأمريكية سيشهد استسلام الأوروبيين؟ لا يمكننا أن نفقد الخيط الأوروبي، وتلك الاستقلالية الاستراتيجية، تلك القوة التي يمكن أن تمتلكها أوروبا لنفسها.. إنها مسألة تصور لشروط السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي، حتى نتمكن من أن تكون لنا كلمتنا الخاصة، ولا نصبح تابعين لهذه القوة أو تلك، وليكون لنا رأينا”.

في خطوة غير عادية، رفض ماكرون صراحةً تصريح كارينباور السابق: “أنا أعارض بشدة، على سبيل المثال، رأي وزيرة الدفاع الألمانية. أعتقد أن هذا تفسير خاطئ تاريخي. لحسن الحظ، إن فهمت الأمور بشكل صحيح، فإن المستشارة لا تشاركها وجهة النظر هذه!!”. تمسكت كارينباور الغاضبة برأيها، وفي اليوم التالي لنشر مقابلة ماكرون، ألقت خطاباً رئيسياً في هامبورغ: “إن فكرة الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا تذهب بعيداً إذا تم فهمها على أنها تعني أنه يمكننا ضمان الأمن والاستقرار والازدهار في أوروبا بدون الناتو، هذا وهم!!”. بعد أسبوع، شوهت، مرة أخرى، الذريعة الفرنسية: “حسناً، لم أسمع المستشارة تقول إن الناتو غير ضروري بطريقة أو بأخرى “.. لكي نكون منصفين، فإن التصريحات الألمانية المتناقضة، على أعلى المستويات، قد تكون مربكة حتى للوزراء الألمان.

 

برلين.. هبات باردة وساخنة

لاحظ الوسط الدبلوماسي الفرنسي ما أعلنته المستشارة ميركل، في أيار 2018: “لم يعد صحيحاً على كل حال أن الولايات المتحدة الأمريكية ستحمينا ببساطة. بدلاً من ذلك، على أوروبا أن تمسك مصيرها بيديها”. وحتى وزير الخارجية الفرنسي السابق، المتشائم دائماً، هوبير فيدرين علق على ذلك بالقول: “هذا ملفت، إذ لم يقل ذلك أي مستشار ألماني منذ الحرب”. فوزيرة الدفاع الألمانية ذاتها التي تشاجرت مع ماكرون حول “وهم” الاستقلال، قالت بنفسها: “سوف تحتاج أوروبا إلى أن تصبح أكثر اكتفاءً ذاتياً”. حتى أنها حذرت البرلمان الأوروبي – قبل أشهر من الانتخابات الأمريكية – من أنه بفوز بايدن ” ستتغير اللهجة فقط في العلاقات عبر الأطلسي”. استخدم الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير مصطلح “الوهم” لوصف الاعتقاد بأن المخاوف الأوروبية ستنتهي مع رحيل الرئيس دونالد ترامب: “علينا الحذر من الوهم بأن اهتمام الولايات المتحدة المتضائل بأوروبا يعود فقط إلى الإدارة الحالية، لأننا نعلم أن هذا التحول بدأ منذ فترة، وسيستمر حتى بعد هذه الإدارة”. مع ذلك، شدد شتاينماير في الخطاب نفسه أيضاً على أن “الاتحاد الأوروبي لا يزال بعيداً عن أن يكون قادراً على ضمان أمن جميع أعضائه بنفسه”. لقد نسي أن يذكر أن الدول الأعضاء (في الاتحاد الأوروبي أو الناتو) – وليس المنظمات – هي المسؤولة عن الدفاع المشترك. لذلك، عندما يتعلق الأمر بالحماية، فإن غياب الولايات المتحدة، أو وجودها، يحدث فرقاً كبيراً. ولكن حتى روبرت كوبر، المستشار الأمني ​​لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك، وجد الأمر مثيراً للجدل: “من غير المرضي أن يعتمد 450 مليون أوروبي على 250 مليون أمريكي للدفاع عنهم”. ومع ذلك، من الناحية العملية، كانت معظم الحكومات الأوروبية راضية عن الوضع. كما أشار الوزير فيدرين (آخر مبعوث خاص لماكرون في مجموعة التفكير التابعة لحلف الناتو)، “استطعت أن أرى بنفسي أن الأفكار الفرنسية معزولة داخل الحلف الأطلسي”. تأكد مراراً وتكراراً شعور فرنسا المعتاد بالوحدة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن مسألة الاستقلال. وفي الخلاف بين ماكرون وكارينباور، أعلن وزير الدفاع البولندي ماريوس باشاكزاك صراحة: “يجب أن نكون أقرب إلى الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى”، بينما أعلن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز: “أتفق مع هذه الرؤية الألمانية للعلاقات الدولية”. ومع ذلك، فإن الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، يميل نحو باريس: “إما أن يكون المرء مستقلاً أو تابعاً. هل يريد شخص ما أن يكون اتكالياً؟ لا أعتقد ذلك! إن كياناً سياسياً مثل أوروبا يجب ألا يكون تابعاً، بل مستقلاً”. من ناحية أخرى، يبدو أن السياسيين الألمان يبتهجون لفكرة “التبعية”، وبدلاً من الشعور بالحرج فإنهم يكررون باستمرار: “ما زلنا نعتمد على الحماية الاستراتيجية لأمريكا.. يعتمد أمن أوروبا على الناتو”. يفسر سببان أحدهما عملي والآخر سياسي تراخي برلين الملفت للانتباه في اتخاذ مثل هذا الموقف.

 

ملكية أكثر من الملك

يكمن تفسير التركيز الألماني على التبعية العسكرية وعلى أولوية الناتو بالقول إنه لا يوجد جيش ألماني كامل الأهلية ومستقل تماماً. لأسباب تاريخية، وكجزء من “ثقافة ضبط النفس” المشهورة، تعد ألمانيا إلى حد بعيد الأكثر اندماجاً في هياكل الحلف. اتخذت ألمانيا هذا النهج منذ خمسينيات القرن الماضي، فقد أوضح فرانز جوزيف شتراوس، وزير دفاع المستشار كونراد أديناور: “لن يكون الجيش الألماني، ولن يكون قادراً على أن يكون، الأداة السياسية للقوة الوطنية، لأن الحكومة الفيدرالية دمجت عمداً قواتها المسلحة في نظام متعدد الجنسيات.. ستعمل وزارة الدفاع وقيادة الجيش فقط كأجهزة تنفيذية لحلف الناتو”.

على الرغم من إعادة توحيد الألمانيتين ونهاية الحرب الباردة، لم يتغير الكثير في هذا الصدد. يؤكد يوهانس بونين – المؤسس المشارك للمبادرة الأطلسية لدعم سياسة السياسة الخارجية الألمانية الأمريكية – على ما يلي: “عندما تغير موقع ألمانيا الجغرافي الاستراتيجي، اختارت بون بشكل مقنع وسريع الاستمرارية من خلال الالتزام الكامل باندماجها العسكري في حلف شمال الأطلسي. لقد منع نطاق ونوعية اندماج الجيش الألماني وقدراته الجمهورية الفيدرالية من إدارة سياسة دفاع أكثر استقلالية، حتى عام 1989. وبعد عقدين من الزمان، علق فيدرين بمزيج من الازدراء واليأس: “لا يوجد جيش ألماني، وإنما جيش تابع للجيوش الغربية، ذلك أن ألمانيا مندمجة بنسبة 99٪ في هيكلية الناتو، ولا مجال للمناورة. هذا هو السبب في أنهم يعلنون عن رؤية تتمحور حول الناتو بشكل صارم، بل وأكثر صرامة مما يأتي من واشنطن”.

خارج المصفوفة التنظيمية الموروثة، هناك دافعان سياسيان حاسمان وراء التشدد الأطلسي في ألمانيا: أولاً، تعتقد برلين أنه كلما تعهدت بالولاء للولايات المتحدة، وكلما دافعت عن أولوية حلف الناتو في الدفاع الأوروبي، كلما كانت واشنطن أكثر تسامحاً عندما يتعلق الأمر بالمجال الاقتصادي، كإمدادات الطاقة من موسكو أو العلاقات التجارية مع بكين؛ ثانياً، الحفاظ على انخراط الولايات المتحدة بشكل مكثف في أوروبا، والتشجيع على واشنطن باعتبارها الضامن الوحيد والأخير للدفاع في القارة، يضمن أن المزايا النسبية الفرنسية في الساحة العسكرية – الجنود المتمرسون، والتسلح من جميع الأطياف، والقوة النووية المستقلة – لا تدخل بجدية في لعبة القوة داخل أوروبا. مع ذلك، ما قد يبدو في البداية مناسباً جداً لواشنطن ليس بالضرورة مفيداً على المدى الطويل. ويمكن أن تنتج “التبعية” المصنّعة ذاتياً شركاء ضعفاء، لا حلفاء أقوياء. إن الشعور بأن المرء يملك “مصيره بين يديه” (بمعنى آخر الاستقلالية) هو المحرك الرئيسي الأبدي وراء الجهود الهادفة المتعلقة بالدفاع والسياسات المتماسكة. وفي حديثه عن مخاطر “الاندماج”، وبالتحديد داخل الناتو تحت قيادة الولايات المتحدة، أشار ديغول إلى أن”الدولة المندمجة ستفقد الاهتمام بالدفاع الوطني لأنها ليست مسؤولة عن ذلك. ونتيجة لذلك، سيتم إضعاف الحلف بأكمله”.

إن هذا التخلي عن الاستقلالية هو التفسير العميق وغير المعلن لأمنيات معظم الحلفاء الأوروبيين المزمنين. وطالما أن ألمانيا تنمي النزعة الأطلسية المتطرفة في مجال الدفاع، فإن برلين تشكل عائقاً أمام أوروبا “التي تقف على قدميها”، وبالتالي جعلها عبئاً على الولايات المتحدة.