الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بماذا تفكر أيها الوقت؟

غالية خوجة

هل جربت أن تفكر بماذا يفكر الوقت؟

ثمة وقت يضع الأزمنة في لحظة واحدة، ووقت ينزلق إلى الأمكنة ليصبح أشجاراً ومحاصيل وأغنيات، ثم يجمع العناصر الكونية الأربعة: الماء، النار، الهواء، التراب، ليطلقها بين الجذور، فتحلق الموسيقا، وتزقزق الأرواح، متداخلة مع وقت يختبئ خلف الوقت، يتبدّل، يتحوّل، يتجذر، يتصيّر، ليكون أطياف المزاج، وأغصان الفصول.

ثمة لحظات ترفرف مع أجنحة الفراشات، وإيقاعاتها تتحرك مع مياه النهر الذي لا يكرر موسيقاهُ مرتين.

وذات وقت، فكّر الوقت أن يصبح يخضوراً من قوس قزح بين الحدائق، على الشواطئ، وفي البراري، ليعيد البسمة للمتنزهين واليائسين والمبتسمين، وليتأرجح بين تحولاته الأطفال، ويكتمل الهلال، ويغرس الضحكات لتحصدها الينابيع، وتنثرها وقتاً جديداً.  

يخضور الزمان يمرّ عبْر النار إلى القصب، فتصدح أصوات الفلاحين بين السهول والجبال والحقول، ينتشر مع أناشيد العمال، يصطحب الفجرَ بين القرى والمدن والصحارى، يبلسم جراح الأمهات والآباء، ثم ينشر زرقته بين السماء والماء، فيضطجع البحر على الشمس، وينسى أمواجه لتستمر في صراعها الدرامي الأبدي مع حركة الزمان بين الشفق والغسق.

ماذا لو فكّر الزمان بالعودة سحيقاً؟ لرأينا أنفسنا أطفالاً، ولربما رأينا طفولة آبائنا وأجدادنا وأجدادهم وهي تعبر إلى الضفة الأخرى من العمر، ولوجدنا كيف تصارعت الدول في الحروب العالمية، وماذا فعل الإنسان بأخيه الإنسان!

لربما شاهدنا النقطة الأولى لحضور الوجود في هذا الوجود، وكيف تشكّلت اللحظة الأولى للكون، ورقصت مجرتنا مع كواكبها ونجمها الشمسي في الآفاق، بين نبضاتنا، وأعادتنا إلى لحظتنا، لكي يتوازن الكون، فلا تطفو لحظة على لحظة إلاّ بأوان، ولا تغرق لحظة في لحظة إلاّ بأوان.

لكن، ماذا لو عدنا بالزمان إلى المستقبل؟! هل سنمر من شروق الغياب؟ أمْ من غروبه؟ أم من تكويناته التي تتشكّل؟ لحظتَها، كيف سيفكر الوقت، ليفتح بوابات الزمان؟

لم تكن في هذه الاحتمالات سوى البصيرة المتقدة بالكشف، لذلك، اخلعْ حواسك، وأشعلْ حدوسك، واتبعني، لنكتشف ما يدور بدواخلنا، ويدور به الوقت، فنخرج عن الزمان إلى آتيهِ، ونغرس طيوفنا الأشد إضاءة، فنتراكم كما الريح بين العناصر، ونتدفق كما المياه الأولى من الذرا، ونصير الغيوم الهاطلة على البساتين، بين المدن، على الملامح، ونحزم الأمطار بأغنية تحصد النار، فتلفحنا رائحة القش في البراري، وتخطفنا رائحة سحرية تشرق من فنجان القهوة، بخلفية موسيقية.

هكذا، يسحرنا الوقت بمفاهيمه وتحولاته وتفكيره الذي هو جزء من تفكيرنا، فنسبح في هذا الفضاء الذي لا يخرجنا عن جاذبية الأرض، ولا يهرب منا إلا إلينا، لنصل إلى موسيقانا العميقة، وحكمتها المستمرة: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، ولا أعرف، تماماً، لماذا البشرية أخذت السيف ورمت الوقت؟!

أعرف كيف يفكر الوقت، لكنني لا أريد أن أعرف كيف يفكر قاطع الأرحام، والأرزاق، والأعناق، والمفسد في الأرض.

نتخلى عن ما يدمّر الوقت ويحرقه، لعلنا نضيء شعاعاً بسيطاً يصير يخضوراً في هذه الأرض، هذا ما أخبرتني به الشجرة العتيقة في حديقة حلب، ومضت إلى جذور ذاكرتها لتقرأ الناس وهم يعبرون أنفاق الوقت دون أن ينتبهوا إلى جريان الوقت بين أرواحهم، وأجسادهم، ونفوسهم، وذاكراتهم، ومخيلاتهم، دون أن يحدقوا جيداً في دخان اللحظات المحترقة وهي تترك رمادها مع آثار أقدامهم وأصواتهم وملامحهم وسراباتهم، دون أن يسألوا: بماذا تفكر أيها الوقت؟