الاغتراب والحرية في مسرحيات كريستوفر مارلو.. منافس شكسبير قدم أعمالاً استثنائية تناولت محرّمات العصر الإليزابيثي
“البعث الأسبوعية” ــ علاء العطار
تمكن عدد قليل من الكتاب والمسرحيين من استلهام شخصية مثيرة كشخصية كريستوفر مارلو، المولود في كانتربري في منتصف القرن السادس عشر، واشتهر في مجتمع المسرح في لندن من خلال مسرحياته الاستثنائية التي تناولت أعمالاً كثيرة وموضوعات محرّمة دون أن تلقي بالاً للإصلاح السياسي، واستخدمت شخصيات استكشفت هذه الموضوعات المحرمة بمنظورات فريدة لم يسبق لأحد رؤيتها. تُظهر الشخصيات التي صاغها مارلو خلال حياته المهنية سماته نفسها، وأهمها ازدراء السلطة وانتهاك القواعد، وربما تكون شخصياته انحرفت عن معايير الحداثة المبكرة، ولكننا كجمهور لا نزال نشعر برهبتها، بوجه أو بآخر، ويتجلى هذا بوضوح أكبر في أبطال مسرحياته الأجانب، وتحديداً تامبورلين ودايدو وباراباس، فضمن الهياكل السردية لهذه الشخصيات الثلاث، يبدو أن مارلو أراد لهم أن يكونوا أجانب في إنكلترا ليُبدي الشفقة ضمن الإطار السردي لـ “الآخر”.
يحتاج مفهوم “الآخر” إلى تعريف ملائم، يحدد أحد تعريفات “الآخرية” بأنها “نتيجة عملية استطرادية تقوم من خلالها جماعة داخلية مهيمنة (“نحن”، الذات) بإنشاء جماعة خارجية أو أكثر (“هم”، الآخرون) تهيمن عليها من خلال وصمهم باختلاف معين، حقيقي أو متخيل، يُقدم على أنه رفض لهويتهم، فيعطي بالتالي دافعاً لتمييز محتمل؛ وسننظر هنا إلى هذا الاغتراب لأنه يندرج تحت مظلة “الآخر”، وكيف يستخدم هذا النوع من الآخرية كوسيلة لقمع شخصيات المسرحيات من جهة، وكسلاح يهبهم القوة من جهة أخرى. من المهم فهم ما تشكل الجماعة الداخلية خلال تلك الفترة الزمنية، ويمكننا تأمل شخصيات من مسرحيات مختلفة لعدة أيام، لكن الممثل لا يتحدث أبداً في غرفة خالية، فإن أزلت الممثلين والجمهور، يمسي المسرح شيئاً مختلفاً كلياً، إذ تكمن خلف الشخصيات وقصصهم البيئات التي أتوا منها، أي إنكلترا في عهد الملكة إليزابيث. ونظراً لأننا نناقش موضوع الاغتراب الضيق، يمكننا تحديد المجموعة الداخلية والمجموعة الخارجية بحسب المكان، فكل ما هو أوروبي يماثل الإنكليزيين، وكل ما هو غير أوروبي هو الغير أو الآخر. والتماثل حاجة قوية في العديد من المجتمعات، ولم تكن إنكلترا في عهد إليزابيث استثناء، وعندما يتقمص الممثلون الشخصيات، يتحملون ضغط عرض المؤشرات الثقافية الإنكليزية المرتبطة بالطبقة والجنس، وعليه، يمكننا التأكد من أن التماثل كان متأصلاً من الناحية الثقافية، وذا أهمية اجتماعية، ما يجعل أي نوع من الاختلاف أكثر وضوحاً للجمهور. وفي حدود تركيزنا على الاغتراب من بين أنواع أخرى من ا”لآخرية”، سنختار ثلاثة شخصيات، هي تامبورلين وباراباس ودايدو، لكن لكي نفهم سبب استفادة مارلو من اختلافهم، علينا أن نفهم المؤلف نفسه.
كريستوفر مارلو
يُشار إلى مارلو في أحيان كثيرة فقط لعلاقته بأعمال شكسبير الشهيرة وتأثيره عليها، لكن لا يصعب ملاحظة اختلاف أعمال مارلو، إذ يقول لورانس دانسون، وهو أستاذ في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة برنستون: “نحتفي بالجدل الدائر حول شكسبير لأننا نثق به، فنحن نثق بأن جدلنا يشهد على قدرة شكسبير على احتضان الجماهير، لكن الحال يختلف مع مارلو، إذ فشل مارلو منذ البداية في حث الثقة داخلنا”. ويمكن أن تُعزى هذه الفجوة في النظرية النقدية بين أعمال مارلو وأعمال شكسبير إلى حقيقة أن مارلو كان جامحاً ومتهوراً في أعماله. وربما يمكن عزو ذلك أيضاً إلى الفجوة المهنية بينه وبين شكسبير، إذ توفي مارلو عن عمر يناهز 29 عاماً، قبل أن يحظى بالشهرة التي يستحقها كالتي استحقها زميله. ولم يكن مارلو في منأى عن الصراع خلال حياته القصيرة، إذ كان يواجه اتهامات بالمثلية الجنسية والإلحاد وغيرها. ومن خلال هذه النظرة العامة لحياة مارلو، يمكننا أن نرى كيف تعرض شخصياته نوعاً من الآخرية من خلال هوياتها الأجنبية. يتضح هذا بشكل خاص في شخصيات تامبورلين وباراباس ودايدو، الذين خلق اختلافهم حدوداً آمنة مكنت مارلو من استكشاف الموضوعات المحرمة.
تامبورلين
تعكس شخصيات مارلو الحركة الاجتماعية التي أرادها في حياته، ولكن ربما لم يتمكن من التنعم بها، وربما حلم أن يصبح شخصاً عظيماً مثل تامبورلين، فقد استوحى هذه الشخصية من تيمورلنك، الذي عاش في القرن الرابع عشر: “كان هذا الشاب أعرجاً واسمه تيمورلنك، وفي غضون سنوات قليلة، شرع في مسيرته الرائعة كفاتح للعالم”، لكن في نظر العديد من الغربيين، يستحضر مفهوم الفاتح في غالب الأحيان شخصية مختلفة، هي الإسكندر المقدوني، الذي، وبالرغم من أنه يعد أجنبياً أيضاً في بلد مارلو، أصبح شخصية أسطورية مشهورة بمرور الوقت، لحد أنه لم يعد صالحاً ليستلهم منه مارلو الشخصية التي أرادها، في حين كان تيمورلنك شخصية حقيقية أتت من مكان قصي، وقليلون يعرفون عن حياته وحُكْمِه، فكان المرشح الأمثل في نظر كاتب يبحث عن لوحة بيضاء يرسم عليها.
كان تامبورلين الشخصية الرئيسية في مسرحيتين متتاليتين، وكان يتحدر من عِرق لا يعد بشرياً أبداً في إنكلترا، وهو أمر باح به للجمهور فوراً، إذ قال للحسناء زنوكرات (ابنة سلطان مصر، وكانت أسيرة لديه): “أنا نبيل، وأفعالي تثبت أقوالي، لكني بمكانة راعي غنم بسبب سلالتي”. ومع أنه أدرك اغترابه، لا نراه يحذر منه أبداً، فلا تتأثر ثقته وحاجته إلى النصر بالسمات التي تجعله مختلفاً: “ترى الآن هذه الرسائل والأوامر يبطلها رجل أعظم منها، وعلى أني أحب العيش بحرية، بقدر سهولة حصولك على تاج السلطان، كأي جائزة بعيدة عن متناول يدي”. ولأنه كان بعيداً عن وطنه، امتلك القدرة على “العيش بحرية”، فلم يعد مقيداً بعادات وطنه، ولا راضخاً لسلطانه، فبات يسن قوانينه الأخلاقية، ويعيش بموجبها وحده.
وبالرغم من غرور تامبورلين، تميل الشخصيات الأخرى داخل المسرحية إلى رؤيته من منظور إيجابي. ويظهر هذا في كلمات الشخصيات الأخرى عندما تتحدث عنه طيلة المسرحية، حتى الذين اضطهدهم يعترفون بقوته، كما هو حال مايسيتس عندما يتساءل عن طبيعة الحرب بعد هزيمته:
“لعين هو من اخترع الحرب!
لم يعرف طبيعتها، آهٍ، لم يعرف، أي ساذج هو!
كيف يصاب برشقات المدفع
ويقف مصعوقاً يرتعش كورقة حور”.
هناك منظور أخلاقي متماسك في مسرحية تامبورلين، لكنه ليس أخلاقياً مختزلاً ولا مبتكراً بحماقة، ومن الواضح أن منظور المسرحية لا يعتمد على أي عقاب في اللحظة الأخيرة. بناء على هذا التصوير، يمكننا أن نفترض أن مارلو ينظر إلى الأمر كالتالي: أن يعد المرء أدنى من البشر يجعله أقرب إلى كونه أفضل من إنسان، فداخل “الآخرية”، قد يعثر المرء على القوة لتجاوز الحدود دون عقاب.
يهودي مالطا
أشار نقاد كثيرون إلى بنية مماثلة داخل مسرحية “يهودي مالطا”، إذ تتمتع شخصية باراباس بحرية سردية لا يتمتع بها أبطال كثيرون لمجرد موقعه المتدني في الحياة. على سبيل المثال، ألقى باراباس في بداية المسرحية مونولوجاً يشتم فيه جيرانه المسيحيين:
“من ذا الذي يكرهني إلا لأنني سعيد؟
ومن ذا الذي يُبجَّل إلا لثروته؟
أفضل، أنا اليهودي، أن يكرهني الناس
على أن يشفقوا عليَّ وأنا مسيحي فقير
لأني لا أرى ثماراً، في عقيدتهم كلها، إلا الخبث والغش والغرور المفرط،
والتي يخيل إليّ أنها لا تناسب ادعاءهم”.
بإمكان باراباس أن يقول قولاً صادماً كهذا دون أن يهاب عواقبه، لأنه في نظر الجمهور الإليزابيثي كان يتصرف كما عُهِد عن اليهود في ذلك العصر.
يستخدم مارلو شخصية باراباس ليوازن بين الشخصيات الأخرى ويكشفها، إذ يحمل باراباس “وصمة” اليهودية، ووصمات الربا الفاحش واستخدام جميع الوسائل المتاحة للوصول إلى الهدف، وغرابة شكله واسمه. إن اختلاف باراباس في الجوهر كبير لحد جعله غير مرئي، وهذا التخفي هو الذي يسمح له بالتواطؤ وكيد المؤامرات حتى ينال ما يريد. وتعني “وصمة” اليهودية هنا أن باراباس نشأ وهو يسمع أن اليهود شياطين متعجرفون. لذلك عندما يقرر أن يكون شريراً يعشق المال، لا فعل من أفعاله يجعل أي مسيحي في المنطقة يعتقد أنه يتصرف بخلاف طبيعته. قد يُنتقد رجل من ديانة أخرى، عندما يوضع في مكان باراباس، لأنه يحب المال أكثر من ابنته أبيغيل:
“ذهبي وثروتي وسعادتي تهب روحي القوة والموت لعدوي!
أهلاً ببداية نعمتي،
آه يا أبيغيل لقد أصبحت ملكي أيضاً”.
لكن باراباس يفلت من هذه المواعظ، ويعد بدل ذلك بطلاً عندما يستعيد ثروته أخيراً بالرغم من معاملته لابنته، التي يعدها هي الأخرى إحدى ممتلكاته، ووسيلة أخرى لتحقيق غايته، إذ يقنعها بأن تتظاهر باعتناق المسيحية لتتمكن من الوصول إلى منزله الذي حوله المسيحيون إلى دير.
دايدو ملكة قرطاج
تروي هذه المسرحية قصة ملكة قرطاجية تقع في حب إينياس، بطل طروادة، الذي وصل إلى موانئ بلدها بعد سقوط طروادة، إذ أرشدته والدته فينوس في الفصل الأول، المشهد الأول، إلى بر الأمان: قرطاج. هذا الموقف بالذات يقلب على الفور ديناميات النوع الاجتماعي التقليدية داخل المسرحية، إذ إن إينياس، رجل يُوضع تحت رحمة إحدى الآلهات ودايدو، وهما امرأتان لديهما القدرة على رفعه إلى السماء أو القضاء عليه. ومنذ لحظة لقائهما الأولى، أبدت دايدو سلطانها، فسألت إينياس:
“أي غريب أنت الذي ترمقني بهذه النظرات؟”
فيجيب: “كنت في السابق طروادياً يا جلالة الملكة
لكن طروادة سقطت، فإلام أنسب نفسي الآن؟”.
وسرعان ما أخبرها إينياس بحالته البائسة:
“مع أني من نسب عظيم، إلا أن ثروتي متواضعة
أدنى من أن أكون برفقة ملكة”.
يخلق انقلاب القوة هذا انطباعاً يلازم المسرحية لنهايتها، حتى عندما تغرم دايدو بإينياس بشدة، وتتصرف بطريقة لا تتماشى وشخصيتها، لربما يكون الحب أصاب قلبها، لكنها تمتنع عن فقدان سلطانها.
ما إن أصابها كيوبيد بسهمه، حتى أصبحت صفات دايدو أكثر فظاظة، لا سيما في سلوكها تجاه إينياس، فهي تتوق إليه علانية طيلة الفصلين الثالث والرابع:
“لكن أخبريهم ألا يحدق به أحد إلا أنا
لئلا تلوث نظراتهم الشهوانية خدود حبيبي
آنا، يا أختي الصالحة، اذهبي إليه
لئلا تذيبني هذه الأفكار الجميلة”.
أمست دايدو متهورة بتزايد، حتى إن الأمر وصل بها إلى حد تخريب عودة إينياس إلى وطنه في الفصل الرابع. لكنها تظل رمز التعاطف في القصة، ولم تتنازل عن سلطتها لإينياس بتاتاً. يؤكد النص على مركزية دايدو من الناحيتين الدرامية واللغوية، فهي تظهر على خشبة المسرح أكثر من أي شخصية أخرى، وتتحدث أكثر من إينياس، بل أفضل منه. ونظراً لأن دايدو تتأثر بتدخل الآلهة في شؤونها، يمكن للجمهور أن يتغاضى عن كثير من تصرفاتها باعتبارها تأثيرات سلبية لسهم كيوبيد.
قد يكون هذا التأثير نتيجة تصرف الآلهة كشخصيات في القصة ولها دور فيها، وبدونها، تبدو مسرحية دايدو مجرد قصة حزينة لامرأة نسيت مكانتها. ومع ذلك، فإن الموطن الذي تنتمي له دايدو يسمح لمارلو باستخراج مجموعة كاملة من الشخصيات الأسطورية اليونانية والرومانية، والتي لا يظهر أي منها في شكل مادي في أعماله الأوروبية المتمحورة حول أوروبا، إذ تتجسد فينوس وجونو وجانيميد وجوبيتر جميعاً في ديدو، وهذه النظرة الخاطفة وراء الستار الإلهي تسمح للجمهور بالتعاطف مع مصائب دايدو والنظر إليها في النهاية أنها شخصية بطولية، على الرغم من الذل الذي تعرضت له.
الفصل الأخير
هناك مقالات نقدية كثيرة حول أعمال مارلو، لكن سرعان ما يتضح أن باحثين كثيرين ينظرون إليه كمنافس لشكسبير بدل أن ينظروا إليه منفرداً؛ وتقريباً، كل مقال يستشهد به يتطرق إلى شكسبير، غالباً بأسلوب المقارنة والتباين. وفي اللحظات التي يُمنح فيها مارلو حيزه النقدي الخاص، تتركز التكهنات عادة حول أسلوب حياته. وبعد دراسة حياة مارلو بعمق، نجد أنه كان من “الآخرين”، ويكتب عن “آخرين”، ويحاول أن يمركز نفسه في سردية قصته؛ ومن خلال معاناته تلك، وصلنا بعض أقوى الشخصيات القيادية في الأدب: يهودي يحاول الحفاظ على نفوذه بالطريقة الوحيدة التي يعرفها، وفاتح يحاول التمسك بإمبراطوريته من خلال أبنائه، ورجل يعقد صفقة مع الشيطان. هذه الأعمال قائمة بذاتها، بصرف النظر عن علاقتها، أو تأثرها، بالتاريخ الأدبي المنفصل.