الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الشيء بالشيء يُذكَر

عبد الكريم النّاعم

أنا من الذين يقرؤون في كُتب التاريخ بقدر ما أستطيع اطّلاعاً لمعرفة مسارات تلك الأزمنة، لا لمجرّد الاطّلاع، بل بحثاً عن الفائدة والعِبرة، وكثيراً ما ردّد النّاس جملة التاريخ يُعيد نفسه حين تتشابه الأحداث، وفي هذا قالوا إنّ ذلك إذا حدث فذلك يعني أن الحدَث الأوّل مأساة، وأنّ التكرار الثاني هو مَلهاة، وكثيراً هم الذين رأوا أنّ احتلال الصهيونيّة مدعومة بقوى الغرب الغاشم، وبالتّخاذل،.. بل والتّخابر العربيّ الرسميّ،.. رأوا في ذلك صورة أخرى من صور حروب الفرنجة في العصور الوسطى، والتي احتلّوا فيها مساحات من بلاد الشام، ومنها فلسطين، وظنّوا أنّهم قد تعمّقت جذورهم في باطن هذه البلاد، ولكنّ الغريب يظلّ غريباً، فقد اضطروا لركوب البحر ثانية والعودة إلى بلادهم بعد مئتي سنة من الحروب المتتابعة، ومؤرّخو تلك المرحلة حفظوا الكثير من مفردات الحياة، وتفصيلاتها، وعلاقة بعض حكّام مقاطعات هذه البلاد مع الغزاة، ممّا يُذكّر بقوة ببعض ما يجري الآن بين حكّام عرب، ومن سار على طريقتهم في علاقاتهم مع العدوّ الصهيوني امتثالاً لرغبات الطّاغوت الأكبر في هذا العصر، أمريكا، فكأنّهم ما وُجدوا إلاّ ليلبّوا ما يُمرون به، ولعلّ أجرأ وأوقح مَن عبّر عن ذلك الرئيس المنصرف ترامب الذي قال للسعوديّين عليكم أن تدفعوا لنا فنحن نحميكم، ولولانا يمكن أن تسقطوا خلال أسبوع واحد، مثل هذا الموقف من ترامب يظلّ مسنوداً بتعهّد أمريكا أن تبقى إسرائيل متفوّقة في السلاح على دول المنطقة، بيد أنّ ما كلّ ما يتمنّاه العدوّ يُدركه، فهانحن نرى إيران تتحوّل إلى قوّة إقليميّة في المنطقة، وبجهود أبنائها، وهي لا تُخفي عداءها لذلك الكيان، بل وتضع في أولويّاتها تحرير القدس، ولم يعد دورها في دعم المقاومة حيث وُجدت غامضاً، ولعلّ الذي لم يُعرف بعد هو أعظم حتى وصل حلف المقاومة إلى مرحلة الرّدع الاستراتيجي، ممّا يعني تجميد القدرات العسكريّة الصهيونيّة، وليس هذا ما أريده من هذا المقال.

أعود للتاريخ، وجميع الشواهد التي سأوردها مأخوذة من كتاب “خطط الشام” لمحمد كرد علي – الجزء الأوّل، جاء في الصفحة “258”: “وكتبَ الأفضل إلى شمس الملوك دُقاق صاحب دمشق يستنجده على الفرنج فاعتذر عن ذلك”، وكانت البلاد آنذاك إمارات وشبه ممالك، كلّ مدينة رئيسيّة لها حاكم يحكمها وقد يورّث حكمها لأبنائه، ففي سوريّة كان العديد من هؤلاء.

جاء في الصفحة “259”: “واستظهر الفرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان، وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان، وعسكر دمشق إلى بصرى، وكان صاحبها أيتكين الحلبي راسل بغدوين ملك الفرنج للاستنجاد به، وتوجّه أيتكين وأرتاش بن تاج الدولة نحو بغدوين، وأقاما عنده مدّة يحرّضانه وقومه على المسير إلى دمشق”. وكان ذلك استظهاراً بالعدو، وذهاباً إليه، والإقامة عنده لتحريضه على حاكم دمشق!!.

وجاء في الصفحة “260”: “ودامت الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين، وظهر من صاحبها ابن عمّار صبر عظيم، وقلّت الأقوات بها، وجلا الفقراء، وافتقرت الأغنياء”. وقال ابن الأثير “وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام تجمّلاً وثروة، فباع أهلها من الحليّ والأواني الغريبة ما لا حدّ عليه، حتى بيع كلّ مائة درهم نقرة بدينار”.

وجاء في الصفحة “262”: “وشعر أمراء المسلمين بالخطر المداهم، لكنّ القوى لم تُوحَّد، وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق أو صاحب حلب لصاحب الموصل، وكلّ منهم يدّعي التّفوّق، ويودّ لو ينال من جاره ليكون له الأمر كلّه، وكان طغتكين صاحب دمشق يحمل العبء الثقيل لأنّ مملكته تتاخم أرض فلسطين، وملوك الأطراف أبعد دياراً، وكان همّه قتال الأعداء من الجنوب والغرب، وحفظ الموازنة مع صاحب حلب حتى لا يستخذي فتسقط دمشق بل الشام بأسرها”.

المؤكّد أن قدر دمشق أن تكون رأس الحربة في كلّ غزوة من غزوات الخارج…

aaalnaem@gmail.com