النكبة.. ذكرى حية على امتداد الأجيال المتعاقبة
د. معن منيف سليمان
تعدّ النكبة من الأحداث الجسام والمفجعة التي لا تزال ماثلة في الوعي العربي والفلسطيني بشكل خاص. ففي 15 أيار 1948، أي بعد يوم من انتهاء الانتداب البريطاني رسمياً عن فلسطين، أعلن المجلس القومي اليهودي عن قيام “دولة إسرائيل”، وعمل المجلس كحكومة مؤقتة برئاسة الإرهابي ديفيد بن غوريون، فكان ذلك اليوم المشؤوم نكبة وفاجعة حقيقية ألمت بالعرب الذين يحيون ذكراها كل عام لشحذ الذاكرة العربية، وتسليط الضوء على جريمة بحق الإنسانية طالما سعى العدو الصهيوني إلى إخفائها والتعتيم عليها طيلة العقود السالفة.
حلّت أحداث النكبة الفلسطينية على يد المنظمة الصهيونية العالمية، وبريطانيا التي تبنت مشروع المنظمة القائم على إلغاء حقوق الفلسطينيين العرب في فلسطين، وإحلال القومية اليهودية مكانهم. وكانت بريطانيا في ذلك الوقت “القوة الكبرى الأولى في العالم، وتبنت، في 2 تشرين الثاني 1917، بشكل جدّي المشروع الصهيوني، وأصدرت وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين.
وفي العام الذي يليه تمكنت بريطانيا من إحكام وإتمام احتلالها لفلسطين بعد أن كانت “أرضاً دولية” – كما أرادت بريطانيا، ووفقاً لاتفاقية سايكس بيكو، عام 1916 – تمهيداً لتنفيذ وعدها للصهاينة، وتسهيل هجرتهم لفلسطين، وطرد أهلها الأصليين منها.
وفي العام 1920، وفق اتفاقية سان ريمو، تمكنت بريطانيا من دمج وعد بلفور في صك انتدابها على أرض فلسطين، الذي أقرته لها عصبة الأمم، في تموز 1922. وبدأت تنفيذ مخططها بجعل فلسطين “وطناً” لليهود، حيث فتحت الباب على مصراعيه أمام اليهود للهجرة إلى فلسطين، فتضاعف عددهم من 55 ألفاً عام 1918، إلى 646 ألفاً عام 1948، أي من 8 بالمئة إلى 31.7 بالمئة من السكان.
وحصل اليهود على أراضي فلسطين من الحكم البريطاني، أو من إقطاعيين غير فلسطينيين. وخلال تلك الحقبة، تمكّن اليهود بمساعدة الحكم البريطاني، من بناء مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية والعسكرية.
وعلى الرغم من المحاولات الاستعمارية والصهيونية لتهجير الفلسطينيين، إلا أنهم صمدوا على مدار ثلاثين عاماً أمامها، واحتفظوا بغالبية السكان (68.3 بالمئة)، ومعظم الأرض (93.7 بالمئة).
لقد كانت المؤامرة أكبر بكثير من إمكانات الشعب الفلسطيني، إلا أن الفلسطينيين، رفضوا الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني، وطالبوا بالاستقلال، وتفجّرت “ثورة القدس” عام 1920، و”ثورة يافا”، عام 1921، و”ثورة البراق” عام 1929. وشكّل الشيخ عز الدين القسام، حركته المقاومة عام 1933، لمواجهة الاستعمار والمشروع الصهيوني، وشكّل عبد القادر الحسيني، منظمة “الجهاد المقدس”.
وتحت ضغط تلك الثورات، وأبرزها “الثورة الكبرى”، ما بين عامي 1936- 1939، اضطرت بريطانيا في أيار 1939، للتعهد بإقامة دولة فلسطين خلال عشرة أعوام، والتوقف عن بيع الأراضي لليهود إلا في حدود ضيقة، ووقف الهجرة اليهودية بعد خمس سنوات.
لكن بريطانيا تنكرت لالتزاماتها في تشرين الثاني عام 1945، وعادت الحياة للمشروع الصهيوني من جديد برعاية أمريكية. وبعد ذلك بعامين وتحديداً في 29 تشرين الثاني 1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارها رقم 181 بتقسيم فلسطين، إلى دولة عربية بنسبة 45 بالمئة، وأخرى يهودية بنسبة 54 بالمئة، و1 بالمئة منطقة دولية، ممثلة بالقدس.
كانت قرارات الجمعية العامة غير مُلزمة ضمن مواثيق الأمم المتحدة. وعند حلول عام 1948، كان اليهود قد أسسوا على أرض فلسطين 292 مستعمرة، وكوّنوا قوات عسكرية من منظمات الهاغانا، والأرغون، وشتيرن، يزيد عددها عن 70 ألف مقاتل واستعدوا لإعلان دولتهم.
وفي مساء 14 أيّار عام 1948، أعلنت “إسرائيل” قيام دولتها على أرض فلسطين، وتمكّنت من هزيمة الجيوش العربية، واستولت على نحو 77 بالمئة من فلسطين، وشرّدت بالقوة 800 ألف فلسطيني، من أصل 925 ألف فلسطيني، وحولتهم إلى لاجئين في الأقطار العربية المجاورة وفي مناطق أخرى من العالم.
ويأتي إحياء الشعب الفلسطيني لذكرى النكبة كل عام، رداً على قادة الاحتلال اللذين يرفعون شعار “الكبار يموتون والصغار ينسون”، حيث تؤكد الفعاليات بأن الشعب الفلسطيني شعب أصيل لا ينسى وطنه، ولا تاريخه، ولا تراثه، ولا عقيدته، ولا هويته، وهو متمسك في العودة إلى أرضه التي ورثها جيلاً بعد جيل عن أجداده مها طال الزمن أو قصر، لأن الكبار علموا الصغار بألا ينسوا فلسطين، بل زرعوا في قلوبهم الحب لفلسطين، والتمسك بالأرض، وغرسوا في عقولهم أيضاً تاريخ وحضارة وتراث هذا البلد العظيم منذ بداية التاريخ وحتى يومنا المعاصر.