ثقافةصحيفة البعث

الإبداع بين فقر الماغوط وترف قباني

يقول كافكا: “أنا أتألم بينما أنتم تَمدحونَ كتاباتي”.. وكثيرون يرون أن المعاناة هي الأم الشرعيَّة للإبداع بالإشارة إلى أن الكثيرين من المبدعين مرّوا بتجارب صعبة عبَّروا عنها بطريقة مؤثِّرة وعميقة، وفي رأي البعض أن ما ورد سابقاً فكرة خاطئة، والدليل وجود مبدعين عاشوا حياة مترفة ولم يمنعهم هذا من الإبداع، وهنا يرفض الشاعر أوس الأسعد أيَّ تعميم في هذا المجال لأن فيه تجاهلاً لنسبية الحقائق، فبرأيه أنه قد تتوفر كامل مقومات ومقدمات الطبخة الإبداعية لكنها لاتحدث لأن الإبداع له  كيمياؤه الخاصة جداً، فالحساسية الخاصة والموهبة والقراءة النوعية الكثيفة مع وجود عين ثالثة تمتلك رؤيتها العمودية للنفاذ إلى ماوراء الأشياء إلى جانب المعاناة بمعنى القلق الوجودي الكبير والأسئلة المتولدة من كل ذلك قد تنتج إبداعاً، مع إشارته إلى أن المعاناة التي تدمر الروح والطاقات الإيجابية وتسجن صاحبها ضمن قفص متطلبات الواقع الاستهلاكي الرهيب لن تنتج سوى المآسي والويلات والموت البطيء، مؤكداً أنه كما ترسخت أسماء كبيرة في ذاكرتنا تولّد إبداعها رغم المعاناة مثل دوستويفسكي وإدغار آلان بو ومحمد الماغوط وحنا مينه وغيرهم فإن أسماء أخرى ترسخت أيضاً في الذاكرة لم تكن تعيش ظروفاً قاسية كتولستوي وستيفان تسفايغ وطاغور ونزار قباني وغيرهم، وبالتالي فإن جوهر المسألة يتعلق برأيه باتساع وجموح مخيلة المبدع وثقافته النوعية وقلقه الوجودي الكبير اتجاه هذا الكون، مؤكداً أن كتابة لاتستمطر غيوم المخيلة هي مجرد توصيف انطباعي ومباشر للواقع لا فائدة منه، لذلك فالتخييل برأيه هو إضافة جرعة من الأدبية المطعمة بالإقناع والمتعة للمسرود ليصبح جديراً بالأدب بعيداً عن الخطابية والصراخ الذي يولد فقاعات سرعان ما تزول بحيث لايدوم في المحصلة إلا الأدب الحقيقي المبني على خلفية معرفية ونفسية عميقة ويمتلك أدواته الفنية.. وخلاصة القول كما أوضح الأسعد أن المعاناة بلا ذهنية نقدية تعيد خلق أسئلتها الوجودية والفلسفية وتكتفي بمداعبة هموم المواطن ماهي سوى مراهم فاقدة الصلاحية، مؤكداً في الوقت ذاته أن مطالبة الأديب أن يكتب أدباً حقيقياً بينما هو مطحون بين رحى الواقع بشروط تفتقر لأدنى مقوّمات الكرامة سيحوله إلى ضحية هذا الواقع وتمزقاته، في حين متى توفرت له أسباب الحياة الكريمة بأقل معاناة سيتمكن من الكتابة بشكل أفضل.

 

ليست ضرورية للإبداع

مع إيمانه الكامل أن المعاناة ليست لازمة ضرورية لولادة الإبداع ولا تمنع الإبداع يرى الكاتب ناظم مهنا أن الفنون والآداب مسألة تصعيدية ترسمها سنوات الطفولة الأولى ثم يتم صقلها بالتجربة والخبرة، وأن سيرة الكتّاب والفنانين التي لا تخلو من المعاناة تقدم تجارب وخبرات حياتية لها فاعلية ولكن ليس من المؤكد أننا يمكن أن نوعز لها بالدافع الفني وكذلك الحياة السعيدة للأفراد قد يكون لها الفاعلية ذاتها، منوهاً إلى أنه من غير المعروف ما هي العوامل التي تجعل فرداً في بيت أو أسرة أو عائلة يغدو شاعراً أو فناناً وباقي أخوته الذين يعيشون المعاناة ذاتها بعيدون كل البعد عن الاهتمام بالأمر، وهذا أمر محيّر ويحتاج إلى تأمل، مشيراً إلى أن الأدب الأكثر تأثيراً هو الأدب النابع من التجربة والخبرة، وهذا النوع من الأدب برأيه هو الذي يحقق الاستجابة عند قراء الأدب، مع ضرورة التمسك بفنية العرض والمقدرة على التأثير والاستفادة من تجارب السابقين والمعاصرين.

لامبرر لحرق روما لنكتب شعراً

ويرى الكاتب والناقد عاطف البطرس أن المعاناة قد تكون متخيلة، إذ ليس بالضرورة أن نكتوي بالنار لنكتب عن أوجاع الحروق، حيث يكفي أن نتصور ذلك ونعيشه إبداعياً، فالتجربة وحدها لا تكفي، والمعاناة ليست شرطاً، مشيراً إلى أن عدداً كبيراً من الناس عانوا الحب ومرارة الهجر لكنهم لم يكتبوا أدباً، وهذا يعني أنه لابد من وجود الموهبة، وأن معاناة الخلق الفني هي التي ينتج عنها الأدب، وبالتالي لا مبرر لحرق روما لنكتب شعراً، مع إشارته إلى أن الفرق بين مبدع عانى وآخر لم يعانِ هو الفرق في الموهبة والقدرة على التعبير، وإذا تساوت الملَكات الإبداعية عند الاثنين فإن من عانى برأيه هو الأكثر قدرة على التأثير والإقناع نظرياً.

لامعاناة عند المبدع

يقول الكاتب فيصل خرتش: “عملتُ في مهن عديدة، فأنا أعمل منذ كنت في السادسة من عمري إلى الآن، وكنت أوفق بين عملي ودراستي، ورغم أنني من بيئة يسيطر عليها الجهل والخرافة فقد استطعت أن أتفوق في دراستي، وهذا يعود إلى شيخ الكتّاب الذي تعلمت عنده القراءة والكتابة قبل أن أدخل إلى المدرسة، وقد أدى ذلك إلى استقامة لغتي التي تميزت بها، فإذا أضفت إليها الخبرة في الحياة والسفر أنتجت كاتباً لن أقول متميزاً، لكن أستطيع القول “كاتب مهم” مبيناً أنه جرَّب مهناً كثيرة، ولم يبق منها سوى الكتابة، فهو يجلس وراء الطاولة كل يوم لمدة ساعتين صباحاً ومساءً يكتبُ في شتى المواضيع من رواية وقصة ومقالات صحفية، فالمهم أن يظل في جو الكتابة، ولا شيء يمنعه عنها، فهي كالوظيفة التي تستعمره ولا يستطيع الفكاك منها، وقد أصيب منذ سنوات بنزيف دماغي أثّر عليه وجعل يده التي يكتب بها شبه مشلولة، ونطقه وحالته الدماغية كلها متأثرة بهذا النزيف، لكنه لم ييأس وعوّد نفسه على ذلك، فتابع الكتابة في الصحافة والإبداع، وهذا ما يجعله يؤكد أنه ليس ثمة معاناة عند المبدع، والمهم أن يكون الإبداع حقيقياً، وهو ولِدَ كاتباً، ولكنه يعترف أن العملية الإبداعية لديه لم تنضج بعد، وقد يأتي اليوم الذي يكتبُ فيه رواية تبهر الناس وتحقق له ما يصبو إليه.

ليست قاعدة

القول إن المعاناة هي الأم الشرعيَّة للإبداع ليس قاعدة برأي الناقد د.عبدالله الشاهر، والدليل مثلاً نزار قباني الذي كان مترفاً، وكذلك أحمد شوقي، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الإبداع إذا توفر عند الفقير أنتج إبداعاً يمس القاع الاجتماعي ويعكس معاناته، وإذا وجد عند المرفَّه أنتج إبداعاً يعكس حالته أيضاً، والشرط الأساس في الحالتين توفر الموهبة، مع تأكيده على أن أكثر الأجناس الأدبية الأكثر تأثراً بمعاناة كاتبها هو الشعر تاريخياً، لأن الرواية والقصة جاءتا في وقت متأخر إلا أن الرواية استطاعت أن تجسد بسردياتها تصويراً مأساوياً للكثير من الحالات الاجتماعية وأن الكثير من الكتّاب كتبوا سيرهم الذاتية كطه حسين الذي كتب معاناته في “الأيام” وكذلك ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” و”الحب وفي زمن الكوليرا”.

الإبداع ابن الفقد والغياب

ويرى الشاعر فواز خيو أن الشاعر الذي يجلس أمام حبيبته ليكتب قصيدة ليس شاعراً: “حين تكون القصيدة الأصلية أمامك عليك أن تعيشها لا أن تهدر الوقت في أشياء هزيلة، وحين تغادر يحصل الدوار البحري إذ تلم أعصابك وتمضي فتجلس لتؤرخ حضورها لترسم مغادرتها هي وحاشيتها من عصافير وورود وشجر” ويرى أن الرسام فقط يجلس أمام الموديل ليرسمه، وبالتالي يصبح الرسام خارج المعادلة، في حين أن الشاعر يرسمها في الغياب، ويتساءل خيو: “حين يكون الوطن حاضراً بكل ألقه ماذا تكتب عنه؟” ويجيب: “أنت تكتب في غياب الوطن وترسم الوطن الذي تحلم فيه والذي يسكنك لا أن تسكنه” موضحاً أنه في الدول المترفة حيث الأوطان الجميلة والأحلام محققة ونادراً ما نعثر على شاعر عظيم أو روائي عظيم وقد نعثر على ناقد عظيم، وربما رسام عظيم، وبالتالي يؤمن خيو أن الإبداع هو ابن الفقد والغياب والقهر، ويرى أن الشاعر مشعوذ ومحضّر أرواح، يستحضر الحبيبة من أقاصي الغياب ويستحضر الوطن من أقاصي القهر والغربة، وهذا الاستحضار يستهلك الكثير من بخور روحه والتعزيم والجمر، لذلك هو ينفر حتى حدود الحقد من أولئك الذين يتسلقون على هذه الشعوذة الجليلة.

الإبداع رغم المعاناة

يبين الباحث الموسيقي أحمد بوبس أن عبارة “المعاناة تولد الإبداع” فيها الكثير من المغالاة لأنها تعني بالمقابل أن الأديب أو الفنان ما كان ليبدع لولا المعاناة، وهذا غير صحيح، فنزار قباني وأحمد شوقي أبدعا أجمل الشعر رغم أنهما لم يعرفا ماهي المعاناة، وبالتالي فالأكثر صحة برأيه أن نقول “الإبداع رغم المعاناة” وهذا ينطبق على كثير من الأدباء والفنانين، كالأديب أحمد الخوص مثلاً وهو صاحب السلاسل الشهيرة في اللغة العربية والذي كان معاقاً جسدياً، وعانى في طفولته الفقر بأسوأ أنواعه، ولم يكن يوجد في الغرفة الوحيدة التي كانت تقطنها أسرته مصباح كهرباء، فكان يجلس تحت إنارة الشارع ليدرس ونال الشهادة الإعدادية والثانوية ثم إجازة الأدب العربي من جامعة دمشق، وأصبح واحداً من أهم كتّاب اللغة العربية، والمثال الثاني الذي أورده بوبس هو الملحن والمطرب رفيق شكري الذي انتشرت شهرته في الآفاق منذ نحو سبعين سنة، فقد تيتَّم من أبيه وهو طفل، فاضطر للعمل في مهن شاقة وهو في سن العاشرة، لكنه وجد فسحة لتعلم الموسيقا وغدا مطرباً مشهوراً وأن من يقرأ كتاب “الأيام” لطه حسين سيعرف كم عانى حتى وصل إلى ما وصل إليه من مجد وهو الذي عانى من الجهل في قريته ومن الفقر، والأهم من ذلك كله فقدانه لبصره، لكنه صبر حتى نال ما أراد، والكلام ذاته ينطبق على المطربة أم كلثوم التي كانت مصممة على أن تصبح مطربة كبيرة رغم معاناة الفقر والمجتمع المتخلف، لكن بالتصميم والإرادة وصلت إلى مجد لم يبلغه غيرها.

أمينة عباس