بــابُ المقـــام
د. نضــال الصـــالح
سماءٌ شديدةُ الصفاء، ومترفَةٌ بزرقة شفيفة، وغيمة رؤوم تحمينا من لظى شمسٍ باهظةِ الجنون أحياناً، وتغدقُ علينا من عذبها الفرات أحياناً ثانية، والجديدُ غناءٌ يبدعني افتتاناً وولهاً بالمفردات وبجديدها، ولثغةً بالجمال تعيدني إليّ بعدَ أن كدتُ أتقطّعُ من خلاف، وقد طال ليلٌ أليَلُ مِن جوع طفل تيبّسَ الحليبُ في صدر أمّه مِن جزع، وتكاثرَ ظلامٌ أظلمُ مِن روحٍ صخّرها الجهلُ.
أمسكَ الجليلُ بي متلبّساً بحنينٍ فادحٍ إلى المدينة القديمة، وما كدتُ أغمضُ عينيّ، كما أشار، حتى وجدتُني أمضي معه مِن بابٍ إلى باب، وكفُّه تقبض على كفّي كما أمّ تخافُ ضياعَ وحيدٍ لها في زحمة باهظة، وعند كلّ باب يتوقّفُ… يتلمّس بأصابع خاشعة الأبواب، والحجارة، والأشجار. وكان، كلّما بلغَ سدرةَ الحلولِ، يصدحُ ببيت من بديعة الصنوبريّ عن المدينة: “فَهْيَ تَسْقِي الغَيْثَ إِنْ لَمْ… يَسْقِها وَإِنْ سَقاها”.
وما إنْ بلغنا بابَ المقام، حيثُ كانت عيناي توضّأت بأوّل الضوء، ثمّ بأوّل الطفولة والصبا، وقبل أن يبدأ الصلاةَ التي كان يقضيها عندَ كلّ باب، قال: “أو ما أتاك أنّه لمّا همّ بالهجرة من مكّة، دعا ربّه قائلاً: اللّهم إنّ قومي يُخرِجونني مِن أحبّ البقاع إليّ، فانقلني إلى أحب البقاع إليك. فنزلَ جبريلُ، وقال له: إنّ اللّهَ يُخبركُ أنْ تهاجرَ إلى يثربَ، أو إلى البحرَيْن، أو إلى قنّسرين. أو ما أتاكَ أنّ جبريل كانَ يعني بقنّسرين حلب، لأنّها كانت من أعمالها؟”، ثمّ برفقٍ باهر وضعَ راحةَ كفّه اليمنى على رأسي، وبحنوّ دفعه نحو الحائط المواجه لي، ونقرَ بسبّابة كفّه نفسه على أسفل أذنه في إشارةٍ منه إليّ بأن أصغي، فامتثلتُ. ألصقتُ أذني بالحجارة تماماً، وسمعتُ الحجارة توشوش لي:
“في ظاهر حلب كنتُ صخرةً تعاندُ الزمنَ وتحوّلاتِ الطبيعة، وبإزميل حجّار ماهر، ثمّ بنّاء مثله، صرتُ هنا. في هذا الباب، أحد أبواب المدينة التسعة التي كانت تحمي حلب من الغزاة والطامعين واللصوص”، وكنتُ، شأنَ الجليل، أقبّلُ، بأصابعَ راعشة وخاشعة، موضع الصوت، وما يحيط بالصخرة / الحجارة التي كانت توشوشني عاشقاً ذوّبه التوق، وكان يتدفّق في خلاياي كلّها عطرٌ لا يشبهه عطر.
قلتُ: “والبابُ أيّتها الحكاية؟”، وإذ سمعني الجليلُ قال: “سُمّيَ باب المقام، لأنّه يفضي إلى المقام الذي يُنسَب إلى النبيّ إبراهيم الخليل، وحيثُ مقام الأربعين قطباً من الأولياء الصالحين، وكان يُعرَفُ بباب نفيس أيضاً، نسبةً إلى رجل من القادة كان اسمه كذلك. بُدء ببنائه بأمر من الملك الظاهر غازي، وأتمّ بناءه ابنه الملك العزيز، وجُليَ وجُدّدَ أيّام الملك الأشرف أبو نصر برسباي في القرن الخامس عشر الميلادي، ثمّ أيّام قايتباي، ثمّ في عهد نور الدين الزنكي. له ثلاثة مداخل، أكبرها الوسط منه بعرض أربعة أمتار، كان خاصاً بالعربات والقوافل والفرسان، والآخران الأماميان عرضُ كل منهما متران، ويمرّ عبرهما المشاةُ والعابرون والمسافرون”.
ثم مسح الجليلُ على جبيني كأنّه يباركني بمسكِ جلاله، ثمّ قال كأنّه يسألُ: “الأسديّ؟”. قلتُ: “أجل يا معلّم، هو إيّاه. عاشقُ حلب، ومؤرّخها، ومبدعُ موسوعتها المقارنة”، وعندما تابع الجليلُ إصغاءه إليّ أتممتُ: ” زادُ روحي كلّما كان الغزاةُ يمنعونني من الحجّ إلى الأبواب، والحارات، والأزقّة، والقلعة، و.. أو كلّما دهمتني صور الخراب الذي افترس تماماً، أو كاد، المدينة القديمة”.