أسئلة الأدب
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
يطرح الأدباء عبر نتاجهم الإبداعي الكثير من الأسئلة التي تجعلنا نتساءل: هل يطرحون هذه الأسئلة ليشاركوا القراء بها، أم يطرحونها لإيجاد إجابات عليها، أم ليتخلصوا من عبئها؟ حيث أن مهمة المبدع إثارة الأسئلة باستمرار، حتى لو لم يستطع أن يعطي أجوبة، وبعض الكتّاب نراهم مهمومين بالأسئلة لقناعتهم بعدم مقدرة أي مثقف، مهما بلغ من المعرفة، على امتلاك الإجابة، إذ لا إجابات مطلقة في الحياة، وعندما يصل الإنسان إلى إجابات مطلقة فهذا يعني أنه أغلق على نفسه المعرفة، ومن سمة الأديب البحث الدائم عن الأسئلة وإنتاجها لتتولد منها الأسئلة، وهذه الأسئلة مهمتها أن تتجاوز الذات إلى الجماعة، لأن ما يخص الذات لا يمكن أن يكون جمعياً إلا بقدر ما يعني السؤال، في الوقت نفسه، الجماعة عامة.
وهناك بعض الموضوعات التي يطرحها الروائيون في رواياتهم، ونراها تنفتح على فضاءات مشرعة لأسئلة بلا أجوبة تجعلنا في تساؤل ما إذا كان الكاتب يتعمد أن يترك مساحة للقارئ أن يجيب عنها، أم هي أسئلة أجوبتها غائبة!! لكن ما إن نسبر أحداث الرواية حتى نلمس عدم تعمد الكاتب إعطاء القارئ فرصة الإجابة عن الأسئلة، بقدر ما يعمل على أن يكون القارئ جزءاً من العملية الإبداعية ويجد نفسه في العمل، يحرضه، ويثير لديه الأسئلة، ويمتعه في الوقت ذاته، مع أنه لا يمتلك إجابات عليها، وبالتالي لا يستطيع، ولا يجرؤ على، اختراع حلول للمشاكل الإنسانية، وحتى مقترحاته التي يمكن أن يطرحها مفتوحة كقصة، لكن القصة مغلقة والأسئلة مفتوحة!!
ومن أسف أن الأسئلة باتت أكثر من قدرتنا على البحث عن إجابات عنها، فيومياً نتعثر بإشكالات تطرح نفسها علينا، وإذا أردنا ألا ندّعي العلم والمعرفة، فهي تتراكم من حولنا، ومن حسن الحظ أنها مترابطة؛ ولو استطعنا الإجابة عن سؤال واحد منها، فسوف نغلق عشرات الأسئلة، لكن لابد من الانتظار، لأنها قد تسقط في امتحان الزمن لها، لأن الكتابة هي الخوض بما أشكل علينا، ومحاولة الإحاطة به، وقد تشير إلى الداء، وتعلن إنذاراً، ربما كان كاذباً، لأننا بشر نحاول وقد نفلح؛ وعلى العموم، ليس ثمة رواية تمتلك النضج وضعت حلولاً طويلة الأمد وناجعة، هذه ليست مهمتها، فهي قد ترتأي لا أكثر؛ ولا نستغرب من أن هناك روايات أعلنت عجزها، وربما هذا امتيازها أيضاً، وسر خلودها.
مرة، سألت إحدى الأديبات، التي يتنوع نتاجها بين القصة والرواية والشعر، على من تطرح أسئلتها، أجابتني أنها تطرحها على نفسها أولاً، وبعدها تطرحها على المحيط، لأن الأسئلة دليل حيوية وطاقة المبدع على العطاء، مع قناعتها أنه لن يجيبها أحد عليها، إضافة لرغبتها المطلقة بأن يشاركها المتلقي بالسؤال الذي هو نوع من محاولة الاكتشاف.
وفيما إذا كانت أسئلتها قد تناقصت بعد تجربتها الأدبية الطويلة، وهل تناقصت بسبب اللاجدوى، أم الخيبات، أم لغربة ما، أجابتني: أسئلتي تناقصت، ليس بسبب عجزي لكن بعد مرحلة معينة، أو بعد النضج، أصبحت أخاف كثيراً من الأسئلة بسبب إدراكي لمخاطرها، ففي البداية كنت أجرأ في طرح الأسئلة.. الآن أصبحت أخاف خوفاً عاماً، لأنني أعيش في مجتمع غير ديمقراطي وغير حر، وأصبحت أدرك معاناة الكاتب، وخاصة إن كانت امرأة وتطرح أسئلة كثيرة.. كذلك الإحساس باللاجدوى أحد الأسباب، وأضافت: الأسئلة أصبحت موجعة أكثر، وتحولت إلى أسئلة من نمط آخر، وزادت ألماً وإيلاماً، وبقي السؤال حاضراً لدي: لماذا نفعل هكذا؟ ما الذي يحدث؟ ماذا سنقول للمستقبل وللزمن؟ ماذا سنقول للأجيال؟ وعندما تحضر الدماء كنافورة في وجه الأجيال القادمة، كيف ستجيب على هذه الدماء؟ تلك هي الأسئلة التي تحز في نفسي، وإن لم أستطع أن جعل هذه الدماء تصرخ في نتاجي الأدبي أكون قد فشلت في تحقيق أي شيء.. ليروا أولاً الفظاعة والبشاعة التي تحدث في الوطن، وهذا الانهيار الأخلاقي، حيث الإنسان الذي أصبح مخيفاً أكثر من الوحوش، والسؤال المؤلم والموجع أكثر: لماذا؟!