مجلة البعث الأسبوعية

“الثلاثاء الحمراء”.. “أهل الشجاعة ما يهابو الردى ولا المنونا”!!

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدرا

من سجن عكا طلعت جنازة     محمد جمجوم وفؤاد حجازي

وجازي عليهم يا شعبي جازي   المندوب السامي وربعه عموما

محمد جمجوم ومع عطا الزير   فؤاد حجازي عز الذخيرة

انظر المقدر والتقادير           بأحكام الظالم تا يعدمونا

 

ويقول محمد أنا أولكم           خوفي يا عطا أشرب حسرتكم

ويقول حجازي أنا اولكم         ما نهاب الردى ولا المنونا

أمي الحنونه بالصوت تنادي    ضاقت عليها كل البلاد

نادو فؤادي مهجه فؤادي        قبل نتفرق تا يودعونا

 

تنده ع عطا من ورا الباب      وأمي بستنظر منو الجواب

عطا يا عطا زين الشباب       يهجم على العسكر ولا يهابونا

خيي يا يوسف وصاتك أمي    اوعي يا أختي بعدي تنهمي

لاجل هالوطن ضحيت بدمي    وكلو لعيونك يا فلسطينا

 

ثلاثة ماتوا موت الأسود         وجودي يا أمي بالعطا جودي

علشان هالوطن بالروح نجودِ    ولاجل حُريتُه بيعلقونا

نادى المنادي يا ناس إضراب   يوم الثلاثا شنق الشباب

أهل الشجاعة عطا وفؤادِ       ما يهابو الردى ولا المنونا

تلك كانت المرثية التي قدمها الشاعر الشعبي نوح إبراهيم، وغنتها فرقة “العاشقين”، لثلاثة شهداء فلسطينيين، هم محمد خليل جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني، يوم الثلاثاء، 17 حزيران 1930، بعد اتهامهم بقتل يهود خلال ثورة البراق عام 1929، أول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس، وضد بريطانيا والحركة الصهيونية معاً.

وتحكي هذه الأبيات اللحظات الأخيرة في حياة الشهداء الثلاثة. وقد حُفرت جريمة “الثلاثاء الحمراء” في التاريخ الفلسطيني كونها أول حادثة إعدام لأسرى من سلطة انتداب. وشكلت جزءاً أصيلاً من الذاكرة الثورية الفلسطينية وأدبياتها، لما تنمُّ عنه من ظلم الاحتلال وشجاعة المناضلين الفلسطينيين الذين تسابقوا إلى حبل المشنقة.

 

الشهداء الثلاثة

ولد الشهيد محمد يعقوب خليل جمجوم في حارة القزازين، في البلدة القديمة من مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية، عام 1902، وتلقى دراسته الابتدائية في الخليل، وأكمل دراسته الجامعية في بيروت حيث التحق بالجامعة الأمريكية.

عرف جمجوم بشجاعته ومقاومته للصهاينة، وشهدت له ميادين فلسطين، حيث كان يتقدم المظاهرات في أرجاء مدينة الخليل احتجاجاً على شراء أراضي العرب أو اغتصابها.

وكان للشهيد أخوان، أكبرهما عبد الله الذي استشهد أيضا دفاعا عن القدس خلال معارك النكبة 1948، وبدوي الذي شارك في معارك القسطل إلى جانب القيادي الفلسطيني عبد القادر الحسيني عام 1948 وأصيب في رأسه، ثم توفي عام 1984.

وكان محمد يستعد للزواج نهاية صيف 1929، لكن اعتقله الانتداب البريطاني قبل موعد زفافه.

والشهيد عطا الزير من مواليد مدينة الخليل أيضاً، وقد عمل في مهن يدوية عدة، واشتغل في الزراعة وعُرف عنه منذ صغره جرأته وقوته الجسدية، وشارك في التظاهرات التي شهدتها المدينة احتجاجا على هجرة الصهاينة إلى فلسطين.

أما فؤاد حجازي، أصغر الشهداء الثلاثة سناً، فهو من مواليد مدينة صفد، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في الكلية الاسكتلندية، وأتم دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت، وعُرف منذ صغره بشجاعته وحبه لوطنه واندفاعه من أجل درء الخطر الصهيوني عنه، وشارك مشاركة فعالة في مدينته في الثورة التي عمت أنحاء فلسطين عقب أحداث الثورة.

 

ثورة البراق

في 15 آب 1929، اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين العرب واليهود عند حائط البراق (الحائط الغربي للمسجد الأقصى). وبلغت الاحتجاجات ذروتها في 23 آب 1929. كما اندلعت صدامات أخرى مع المستوطنين اليهود وقوات الانتداب، في الخليل وصفد والقدس ويافا، وفي غيرها من مدن وبلدات فلسطينية، واستمرت أياماً.

وسقط أكثر من 100 شهيد فلسطيني وجُرح أكثر من 200، وأصدر المندوب الإنجليزي، آنذاك، تكانسلور، أوامره باعتقال قرابة 900 من العرب والفلسطينيين قدمتهم سلطات الانتداب للمحاكمة، فحُكم على 27 منهم بالإعدام، لينتهي الأمر بتخفيف العقوبة عن 23 منهم إلى السجن المؤبد، مع الحفاظ على عقوبة الإعدام بحق الأبطال الثلاثة: محمد خليل جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي.

ورغم محاولات القادة الفلسطينيين منعها، إلا أن سلطات الانتداب أصرت على ذلك.

وحدد يوم الثلاثاء 17 حزيران 1930 موعداً لتنفيذ حكم الإعام في سجن عكا.

 

فوق منصة الإعدام

وصلت معلومات إلى الشهداء الثلاثة باحتمال استبدال حكم الإعدام بواحد منهم في آخر لحظة بالسجن المؤبد، فكانوا يتسابقون إلى الموت، فمحمد جمجوم لم يكن متزوجا ولم تكن لديه عائلة، خلافا لرفيقيه، وطلب أن يُعدم في البداية، فإن كانت هناك فرصة للنجاة تكون لأحد رفيقيه.

أما عطا فطلب أن ينفذ حكم الإعدام به دون قيود، إلا أن طلبه رفض؛ فحطمّ قيده وتقدم نحو المشنقة رافع الرأس.

وظلّ الحدث مخلداً في الذاكرة الفلسطينية لتسابق الشهداء الثلاثة على الموت في سبيل فلسطين.

وفي محاولة لاحتواء الغضب، أرسل الاستعمار البريطاني لجنة للتحقيق بالأحداث، اعترفت بحق أهل البلاد في حائط البراق، وقامت برفع تقريرها لعصبة الأمم عام 1930.

 

زيارة غرفة الإعدام وحِنّاء

طلب الشهيد فؤاد حجازي قبل إعدامه بيوم واحد أن يزور غرفة الإعدام، في حين قام عطا الزير ومحمد حجازي بوضع الحِنّاء على أيديهما، كما في عادات أهل الخليل، وكأنهما مقبلان على حفل زفاف.

 

وصية الشهداء الثلاثة

سُمح للشهداء الثلاثة أن يكتبوا رسالة في اليوم السابق لموعد الإعدام، خطها الشهيد حجازي باسمه وباسم رفيقيه جمجوم والزير، فكتب الوصية وأرسلها إلى صحيفة اليرموك، التي نشرتها في 18 حزيران 1930، بخط يده وتوقيعه، وجاء فيها:

(الآن ونحن على أبواب الأبدية، مُقَدّمين أرواحنا فداءً للوطن المقدس، لفلسطين العزيزة، نتوجه بالرجاء إلى جميع الفلسطينيين، ألا تُنسى دماؤنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة وأن نتذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساساً لبناء استقلال أمتنا وحريتها وأن تبقى الأمة مثابرةً على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الأعداء. وأن تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأعداء منها شبراً واحداً، وألا تهون عزيمتها وألا يضعفها التهديد والوعيد، وأن تكافح حتى تنال الظفر.

ولنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وأمراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، ألا يثقوا بالأجانب وسياستهم وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: “ويروغ منك كما يروغ الثعلب” وعلى العرب في كل البلدان العربية والمسلمين أن ينقذوا فلسطين مما هي فيه الآن من الآلام وأن يساعدوها بكل قواهم.

وأمّا رجالنا فلهم منا الامتنان العظيم على ما قاموا به نحونا ونحو أمتنا وبلادهم فنرجوهم الثبات والمتابعة حتى تنال غايتنا الوطنية الكبرى. وأمّا عائلاتنا فقد أودعناها إلى الله والأمة التي نعتقد أنها لن تنساها.

والآن بعد أن رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذا الحماس القومي، فإننا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين ونضع حبلة الأرجوحة، مرجوحة الأبطال بأعناقنا عن طيب خاطر فداء لك يا فلسطين، وختاماً نرجو أن تكتبوا على قبورنا: “إلى الأمة العربية الاستقلال التام أو الموت الزؤام وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت)

 

هبة شعبية بلا جنازة

كان إعدام الثلاثة تحولاً في مسار القضية الفلسطينية بعث روح المقامة من جديد ، وهب الشعب الفلسطيني في وجه الانتداب، وصدحت المساجد بالآذان وعلا صوت الأجراس في الكنائس. ورفضت السلطات البريطانية الإفراج عن جثامين الشهداء الثلاثة لمنع تفاقم الهبة، ودفنتهم داخل سجن عكا 40 يوماً، ثم أفرجت عن الجثامين إلى المقبرة الإسلامية هناك في عكا.

 

“الثلاثاء الحمراء”

أعدم الشهداء الثلاثة يوم ثلاثاء، وكانوا ثلاثة، وشنقوا في 3 ساعات متتالية: الساعة 8 فؤاد حجازي، والساعة 9 عطا الزير، والساعة 10 محمد جمجوم.

وقد خلد الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته “الثلاثاء الحمراء” الشهداء الثلاثة، وغنتها فرقة “العاشقين”، ويقول مطلعها: “كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت، أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد، وصاروا مثل يا خال، طول وعرض البلاد”.