مجلة البعث الأسبوعية

غزّة هاشم قلعة العزّة والمنعة.. عجوز فلسطيني من جباليا: “إن شاء الله يَحل السلام.. نحن نعود إلى المجدل وأنتم تعودون إلى بولندا”

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدرا

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مساحة لا تزيد عن 360 كم2 تتربع مدينة غزّة. وقد بُنيت على تلٍ يرتفع زهاء 45 متراً فوق سطح البحر، وعلى حافة الأراضي الخصبة، التي تأتي مباشرة بعد برّية سيناء، لتكون المحطة الطبيعية لكل القادمين من مصر، ووجهتهم إلى الشام، ومن الشام إلى مصر.

تبدل اسم غزّة بتبدل الممالك والقوى التي استولت عليها، فقد كان الكنعانيون يسمونها هزاتي، والفرس هازاتو، وسماها المصريون القدامى غاداتو، وفي المعجم اليوناني أيوني، وعند الإنجليز غازا، وسماها العرب المسلمون غزة أو غزة هاشم، فقد ارتبط اسمها عندهم باسم هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للنبي محمد، والذي مات فيها، وهو عائد بتجارته منها نحو مكة عام 524 للميلاد، إذ كانت غزة محط رِحاله، وأصبحت مأوى ضريحه، وسمي أكبر مساجدها باسمه.

ويقول ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان”: “ثم سِرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها”، فيما يورد المؤرخ الفلسطيني عارف العارف، الذي شغل منصب قائم مقام غزّة، في الفترة ما بين 1940 و1944، أن اسم غزّة قد يكون من القوة والمنعة والشدة، وقد يكون من الثروة، مشيراً إلى أن غزة “ليست وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها.. لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه”.

 

رحلة طويلة مع الغُزاة

تقع غزة، على ثلاث واجهات، هي مصر والجزيرة العربية والبحر المتوسط. وعلى الرغم من صغر مساحتها الجغرافية، إلا أنها كانت مقصد جيوش وعبور وإقامة الملوك. فهي تقود إلى أفريقيا، ومنها يتم الدخول إلى مصر، وتعتبر بوابة العرب القديمة على البحر المتوسط.

وقعت غزة تحت سيطرة قدماء المصريين لأكثر من 350 عاماً، قبل أن ينتزعها الفلسطينيون القدماء، ويحولونها بسرعة إلى إحدى أهم المدن العالمية المؤثرة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ثم بسطت الإمبراطورية الآشورية سيطرتها عليها في حوالي عام 730 ق. م، واستمر ذلك لعدة قرون، ثم تحولت إلى سيطرة الفرس، قبل أن يضع الرومان أيديهم عليها.

وكان لغزّة تاريخ وطيد مع العرب قبل مجيء الإسلام، حيث كانت قوافلهم تجوب غزة والمناطق حولها، ثم كانت بعد ذلك أول مدينة فلسطينية تفتحها الجيوش الإسلامية عام 635. وقد كتب لها الاستقرار بُعيد الفتح الإسلامي فترة طويلة، قبل أن يحتلها الصليبيون عام 1099، حيث حكموها بالحديد والنار نحو ثمانية عقود، ليستعيدها الفتح الإسلامي مرة أخرى بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187، ويحولها إلى مركز إداري إستراتيجي بين مصر والشام. وطوال الفترة ما بين حكم الأيوبيين والمماليك، ومن ثم العثمانيين، كانت غزة شرياناً حيوياً للتجارة، وسورَ حماية لما يليها من البرّ الفلسطيني.

 

العصر الحديث

في العصر الحديث، وخلال الحرب العالمية الأولى، استولت القوات الإنجليزية على غزة في تشرين الثاني1917 حتى أيار 1948. ويصف مؤرخ فلسطيني تلك المرحلة بقوله: “اشتركت جميع مدن وقرى وبدو لواء غزّة في الجهاد ضد البريطانيين واليهود. وفي عام 1936l، شارك سكان قطاع غزة في الثورة الفلسطينية، والإضراب الكبير الذي استمر 173 يوماً. وقُبيل انسحاب البريطانيين عام 1948، وقعت معارك عدة بين أهالي غزّة، والقوافل الإسرائيلية التي كانت تزويد المستوطنات المنتشرة في جنوبي البلاد بالمؤن والعتاد.

اتسعت الحركة الفدائية الفلسطينية لأهالي غزّة، خاصة في فترة الخمسينيات من القرن الماضي. وخلال أعوام 1955 – 1956، شنَّ أهل غزّة أكثر من 300 هجوم فدائي على مواقع ومستوطنات إسرائيلية عدة. وبعد حرب عام 1967، سيطرت إسرائيل على مدينة غزة وقطاع غزة، واستمر هذا الاحتلال مدة 27 عاماً. وخلال هذه الفترة، عانت المدينة والمنطقة المحيطة بها من الاحتلال الإسرائيلي الذي أثر بشكل كبير على حياة السكان. بالإضافة إلى ذلك، صادرت سلطات الاحتلال مساحات كبيرة من أراضي القطاع واستخدمتها لإقامة المستوطنات الإسرائيلية.

وفي عام 1987، شهدت المدينة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وشاركت بنشاط في الاحتجاجات ضد الاحتلال، وتمثل هذه الفترة تحولاً مهماً في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث تصاعدت التوترات والمواجهات بين الشعب الفلسطيني والقوات الإسرائيلية.

ورداً على هذه الانتفاضة، اتخذت إسرائيل إجراءات قمعية بحق الفلسطينيين، بما في ذلك إغلاق المدارس وحظر التجول واعتقالات جماعية.

 

بعد توقيع اتفاقية اوسلو في أيلول 1993، أعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي نشر قواتها جزئياً في مدينة غزة ومناطق أخرى، في أيار 1994، وبدأت السلطة الفلسطينية بإدارتها، مع بقاء العديد من المستوطنات تحت السيطرة الإسرائيلية. وفي آب 2005، وبعد 38 عاما من الاحتلال، أخلت إسرائيل قطاع غزة بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، آنذاك، وبقي القطاع محاصراً، براً وبحراً وجواً.

وفي تشرين الثاني 2008، بدأت إسرائيل حملة عسكرية استمرت 22 يوماً، وأسفرت عن استشهاد الكثير من المدنيين، وحوصر القطاع ومنعت إمدادات الكهرباء والوقود والأدوية، وما زال الحصار مستمراً حتى اليوم.

وفي 2012، شنت إسرائيل عدواناً آخر على غزة، وردَّت المقاومة الفلسطينية بإطلاق صواريخ نحو المستوطنات، وفي 2014، اندلعت مواجهات دامية مرة أخرى.

في آذار 2018، بدأ فلسطينيو القطاع مسيرة العودة عند الجدار الشائك، وفتحت القوات الإسرائيلية النار لإبعاد المتظاهرين، وسقط أكثر من 170 فلسطينيا في الاحتجاجات، التي استمرت عدة أشهر.

هذه الأحداث جعلت من قطاع غزة مكاناً مليئاً بالمعاناة والصراع طويل الأمد.

 

الاحتلال دمر كنوزا أثرية

وتتوزع بيوت غزة التقليدية على أحياء البلدة القديمة وتتركز في أحياء الدرج والزيتون والشجاعية، والعدد الأكبر منها مهجور، ومنها ما لا يزال مسكوناً كمبنى سكني أو كمراكز ثقافية، مع وجود بعض المعالم الأثرية العريقة بين الأزقة. وقد كان للاحتلال الإسرائيلي دور كبير في تدمير جزء من هذه الكنوز الأثرية، من خلال القصف العشوائي خلال الحروب المتعاقبة على القطاع، حيث تعرضت المدينة القديمة لضربات القذائف الإسرائيلية خلال العدوان على غزة صيف 2014. وهي الآن تحت رحمة سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها قوات الاحتلال في خطتها لترحيل أهالي غزة وتدمير المدينة بالكامل.

 

المسجد العمري الكبير

ومن أبرز هذه المعالم المسجد العمري الكبير والذي يقع في حي الدرج، ويعتبر من أقدم وأعرق المساجد في غزة، حيث سمي بالمسجد العمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وبالكبير لأنه أكبر جامع في غزة. وكان المسجد في السابق عبارة عن كنيسة شيدها أسقف غزة آنذاك برفيريوس، وتحولت إلى مسجد عندما فتحت غزة في عهد عمر بن الخطاب، حيث أقيم فيه محراب ومنبر واتخذ منه المسلمون مسجداً للعبادة.

 

جامع السيد هاشم

مسجد السيد هاشم هو واحد من أقدم المساجد في غزة، يقع في حي الدرج بالمدينة القديمة، وبُني بشكل مهم وأصلي، وأُسِّس على يد المماليك.

تاريخياً، كانت هناك مدرسة في المسجد أُقيمت من مال الوقف بواسطة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في فلسطين، وتعرض المسجد لأضرار جراء القنبلة خلال الحرب العالمية الأولى.

وتوجد على جوانب المسجد مجموعة من الغرف، كانت سابقاً عبارة عن مدرسة لتعليم المذاهب الإسلامية.

 

كنيسة الروم الأرثوذكس

وهي مجموعة من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية التي تَستخدم تقاليدها ولغتها التقليدية باللغة اليونانية، وتأسست هذه الكنائس في العصور الأولى للمسيحية واحتفظت بتقاليدها الدينية والثقافية منذ ذلك الحين.

ترتبط هذه الكنائس بالتاريخ البيزنطي وتُعدّ فرعاً من المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، وفي القرون الأولى للمسيحية، انتشرت اللغة اليونانية وأصبحت لغة الكتابة واللاهوت في هذه الكنائس، كما تأثرت بشكل كبير بالكنيسة القسطنطينية واعتمدت الكثير من طقوسها وتقاليدها.

وتعتبر كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية، ثالث أقدم كنيسة في العالم في مدينة غزة القديمة، سميت بهذا الاسم نسبة إلى القديس برفيريوس الذي دفن فيها، حيث يوجد قبره في الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة التي يلاصقها من الناحية الشمالية مسجد كاتب ولاية، من دون أن تتمكن عوامل الزمن من إخفاء معالمها المسيحية الواضحة والعريقة، حيث يرتكز سقفها على أعمدة رخامية ضخمة تفخر بجمال تصاميمها وبنائها ولوحاتها الفنية العتيقة، والألوان اللافتة والأيقونات التي تزين الجدران بالرموز المسيحية، التي تروي حكاية المسيح عيسى منذ الميلاد.

 

قلعة نابليون

قصر الباشا أو ما يسمى قلعة نابليون، يقع في حي الدرج في مدينة غزة القديمة، وهو عبارة عن مبنى من طابقين يعود تاريخه إلى العصر المملوكي، وكان مقر حاكم غزة خلال العصرين المملوكي والعثماني، وكان يستخدم كمركز للشرطة أثناء فترة الانتداب البريطاني. ويتميز قصر الباشا بأنه حصن من الدقة والقوة والجمال، ويحتوي على واجهات بنقوش ورسومات مختلفة مع أنماط متعددة في الأشكال، مثل شعار القائد المملوكي الظاهر بيبرس، بالإضافة إلى الأشكال الهندسية والعناصر الأثرية الفريدة مثل القباب والأشكال الهندسية المتقاطعة، ولهذا المبنى العريق أهمية كبيرة لدى الجهات المختصة في الآثار سواء على الصعيد المحلي أو الخارجي بسبب تاريخه.

وعلى الرغم من كل الاعتداءات والاحتلال الإسرائيلي، فإن مدينة غزة ما زالت تناضل لتبني كيانها الفلسطيني العربي المستقل عن الاحتلال والتدخلات الخارجية حتى هذه اللحظة.

 

“نحن نعود إلى المجدل وأنتم تعودون إلى بولندا”

وغزّة، المدينة التي تمنى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، أن يصحو يوماً، فيجد البحر قد ابتلعها، تأبى إلا أن تكون موفورة القوة والمنعة، قبل وبعد وجود إسرائيل.

ويحضرنا هنا حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في كتابه “مكان تحت الشمس”، عن حوار دار بينه وبين فلسطيني عجوز من مخيم جباليا في غزة:

نتنياهو: من أين أنت؟

الفلسطيني: من المجدل (مستوطنة أشكلون).

نتنياهو: هل ستعود إلى المجدل؟

الفلسطيني: إن شاء الله يَحل السلام، ونعود إلى المجدل.

نتنياهو: إن شاء الله يَحل السلام، وأنت تزور المجدل، ونحن نزور جباليا،

فردّ الفلسطيني: نحن نعود إلى المجدل، وأنتم تعودون إلى بولندا.