مجلة البعث الأسبوعية

نافورة الماء.. موسيقا الطمأنينة والسماء

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

تشتهر البيوت العربية، الدمشقية والحلبية خصوصاً، بعمرانها الفني الجمالي المريح للروح، الموحي بطمأنينة نفسية، وحيوية عقلية، وحركة جسدية سليمة من الأمراض، لأسباب عديدة، منها أن البناء العمراني لهذه البيوت يتضمن شبكة متكاملة من الاهتمام التشكيلي والهندسة العمرانية والصحية والبيئية، إضافة إلى الدراسة السيكولوجية للحالة النفسية للساكنين لكي يتمتعوا بأكبر قدر ممكن من الارتياح والتآلف والسعادة.

 

فنون الذاكرة

وهذا ما تحكيه البيوت العربية الحلبية تحاورياً معاً، وما يوحي به شكلها العمراني الخارجي والداخلي معاً، وتواصل كلامها لتسمعها الأجيال، راويةً عن ساكنيها حكاياتهم وأحداثهم، محتفظة بآثار حياتهم كما تحتفظ بأشعة النجوم المقتربة المظللة لباحة الدار، المحتضنة لأشعة القمر ليلاً، المتوارية من أشعة الشمس نهاراً.

وقد تصادفنا بين الشبابيك الخشبية حكاية امرأة تهوى النظافة لدرجة الوسواس، فتراها تغسل النباتات والأزهار المحيطة بصحن الدار، والأصص المتدرجة صعوداً مع الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني، ثم إلى السطح؛ وحينما تفتح شبابيك غرف بيتها الخشبية، تطل على الحارة والشارع، تحيّي جاراتها، وتعود إلى الإيوان المقنطر، أو تجلس لتحتسي قهوتها في باحة الدار قرب بركة الماء المحاطة بأصص من الورود.

 

خرير التأمل ونوافير الغناء

بركة البيت الحلبي مصنوعة من الحجارة الشهبائية، أو الرخام الأبيض، أو الملون أو الفسيفساء الرخامي الهندسي، ومزينة بمجسمات فنية منحوتة على شكل أسُود، وأصص، ونباتات، وبجعات وطيور وأشكال أخرى، مناسبة لزخرفات وتزيينات ورسومات البيت وجدرانه وبلاطه وسقفه ونوافذه وزجاجه وخشبه؛ ومن هذه المجسمات تخرج نوافير الماء لتصب في البركة التي تتوسطها نافورة أكبر تدفع مياهها إلى الأعلى لتعود مع الجاذبية إلى ماء البركة، ما يشكّل إيقاعات موسيقية تساعد على الراحة والألفة والمحبة العائلية كما تجدد النفس والروح.

مياه النافورة تحكي بصمت، تغني، وترقص، وتجذب إلى سطحها بعض أوراق الأشجار والنباتات المتساقطة مثل مطر الخريف والشتاء، لتذكرنا بمقطوعة فيفالدي وفصوله الأربعة، المائجة مثل أحلام ساكنيها، المهدئة لأعصاب المتألمين الذين يرون في مراياها دموعهم، ثم تسحبهم بسحرها إلى عالم آخر من السعادة، بعدما تمسح عن قلوبهم الانكسار، وتمحو عن جروحهم التعب، وتمدّ أرواحهم بمزيد من التفتّح لتكون هذه الأرواح وروداً أخرى ترقص في أعماقها، على سطحها، ترفرف مع النسمات العابقة بالياسمين، تزقزق مع العصافير، ترقب أجنحة الحمامات المحلقة، وتتابع رفيف الفراشات الملونة.

النافورة الناصعة بأبجدية الماء ولغة المخيلة، تُسمع موسيقاها وتستمع إلى موسيقانا بين القدود الحلبية والموشحات الأندلسية، وتصغي، مثل قصيدة، إلى أحوال السماء.

وقد يكون خلف البركة مصطبة للجلوس، غالباً ما يجلس عليها المغنون عندما تقام الحفلات في البيت، أو يجلس عليها أفراد العائلة وأقرباؤهم وضيوفهم أثناء سهرهم الذي ترافقه الأغاني وبعض الآلات الموسيقية المتواجدة في كل بيت حلبي.

 

أسرار الباحة

لا يمكن الدخول إلى البيت الحلبي الأثري، أو التنقل بين غرفه وطوابقه وسطحه ومرافقه، إلاّ من خلال باحته، ما يجعله بيتاً منفتحاً على الداخل، منغلقاً على الخارج، وهذه الباحة التي تتوسطه تلمّ شمل العائلة للجلوس، وتبادل الأحاديث، وتناول الطعام، ولربما استدعتهم للنوم المريح في فضائها المفتوح على السماء التي يفرح بها الأطفال، فيعدّون النجوم ريثما يغمضون أعينهم ويحلمون.

 

فتون الاتساع

الحلبية بطبعهم يحبون الطرب والغناء والرقص، ويعرفون كيف يسعدون أنفسهم مع عائلاتهم، فيهتمون ببيتهم المعطّر بالورود الطبيعية، ويديرون أشعة الشمس لتجفيف مؤونتهم الموسمية، ويختارون غرفة تتمتع بدرجات حرارة طبيعية لتخزين المؤونة، بينما يختارون أفضل غرفة لضيوفهم، وهي “الإيوان”، الفاتن بزخرفته ورسومه ولوحاته، وأرضيته المرمرية المرتفعة حوالي نصف متر عن سطح باحة الدار المستطيلة، أو المربعة، أو المضلعة.

والجالس في الإيوان يستمتع بالهواء النقي الذي جذب أرسطو، ذات يوم، ليستشفي به من مرضه، ويستمتع بفنون الزخرفة اللونية والخشبية والحجرية، وخرير النافورة الذي يجذبه إلى عالم من التأمل والارتياح الباحث عنه في الأجواء الطبيعية المبهرة لحلب.

 

حلب وأرسطو

لكن، لو عاد أرسطو الآن لزيارة الشهباء، لكان أكثر عدالة من الساسة الداعمين للإرهاب وتدمير التراث والبشر والحجر، ولألّف كتاباً فلسفياً وواقعياً يدين به الدول الإجرامية ومرتزقتها، ولطالبها بالتعويض المناسب، وحكم عليها بعقوبات مناسبة، ولوقف في ساحة سعد الله الجابري مردداً بيت شعر المتنبي:”حلب قصدنا وأنت السبيل”.

 

الأكشاك الخشبية لوحات فنية

البيت العربي الحلبي معرض فني دائم، لأن الرسوم والزخارف النباتية والحيوانية والتشكيلات الأخرى تزين جدران غرفه وسقوفها، إضافة إلى بعض اللوحات الزيتية الجدارية التي، غالباً، ما تكون لمناظر طبيعية من أشجار وأنهار وجسور وقوارب على شاطئ البحر.

وتضاف لهذه الفنون المعمارية والجماليات تلك النوافذ بأكشاكها الخشبية المخرمة بأشكال هندسية أو نباتية أو حيوانية، وتبدو ظلالها لوحات جميلة على الأرض مع أشعة الشمس أو أشعة القمر، خصوصاً عندما يكون زجاج نوافذها معشقاً.

 

ذاكرة معاصرة

ومن هذه البيوت السكنية الأثرية نذكر بيت وكيل في حارة السيسي بحي الجديدة؛ بيت كان زمان وعمره أكثر من 300 سنة، بيت الياسمين، بيت زمريا، بيت القنطرة، بيت باسيل، بيت أجق باش “متحف التقاليد الشعبية بحلب”، وبيت غزالة الذي أصبح متحفاً أيضاً، بيت دلال المبني منذ القرن الثامن عشر.

ومن هذه البيوت ما تمّ توظيفه بطريقة معاصرة تجمع عراقة التراث وحداثة الحاضر، فأصبح بعضها متاحف، وبعضها فنادق ومطاعم ومقاهٍ، ما حوّل هذه المنطقة الأثرية إلى منطقة حيّة وحيوية تستقطب أهل المدينة والسائحين العرب والأجانب؛ وبذلك تكون هذه البيوت قد أضافت لوجودها الأصيل كمعلم أثري تأريخي وجوداً آخر كمعلم سياحي تراثي معاصر. ونأمل أن تحوّل هذه البيوت، أيضاً، إلى مقر للجهات الثقافية والفنية، لا سيما فرع اتحاد الكتّاب العرب في حلب، خصوصاً وأننا في مرحلة إعادة البناء والإعمار.