أمسية قصصية تحكي يوميات حلب
ترى، ماذا لو استقل أحدنا وسيلة نقل عامة في حلب؟ وماذا بين الفنان والناقد؟ وكيف للقسوة أن تنجب إنساناً قوياً؟
بعض الإجابات عن هذه الأسئلة تضمنتها الأمسية القصصية التي أقامها اتحاد الكتّاب العرب- فرع حلب، بالتعاون مع مديرية الثقافة بحلب، وقدمها الكاتب محمد جمعة حمادة.
الدوران اللوني
تناول الكاتب د. وليد السباعي في قصته (الفنان) حالة الفنان والألوان، ليكون الأخضر أسرع، والأسود أبطأ، ثم يرسم السنابل والأحصنة والسلاحف والشعراء ويتركها في الغابة حتى تتكاثر، معتمداً على النقدية الشفافة لما بين الحياة والموت، الروح والحواس، الوجود واللاوجود، على حالة خرافية شعرية سردية من فنياتها الراوي العالم بكل شيء بين اللوحات والأيقونات والعالمين المرئي واللامرئي، وذلك ضمن مسافة رمزية بين العلائق المتشابكة من الأسفار، وأغاني الريح، وإيقاعات الجملة القصصية الكثيفة المتمركزة بمجملها على لحظة الضوء ورمزه “الخير”، وعلى لحظة الظلمة ورمزها “الشر”، منتقلاً بالأحداث المتداخلة بين الروح والطبيعة والناس إلى حالة متقاطعة تبرز فيها الدهشة المنادية: “يا جلال الدين الرومي”، ليأخذنا القاص والروائي والمسرحي د. السباعي إلى الدوران الداخلي مع البطل الرائي المتملص من الكاتب، المتناغم مع مقاطع القصة بمونولوجها وديالوغها، ليخبرنا أن البطل يطرد معتقداته الماضية، ويقف قوياً كالشر، ثم يختزل حالة الدوران اللوني في الخاتمة، مشيراً إلى سرعة الأخضر والعالم الروحي وقوته، مستبعداً الأسود البطيء، مؤكداً أن قدر الإنسان أحرف تهز لتحكي ما في الداخل والخارج، عابرة صورتيها المتناقضتين، مذكّراً بأنكر ونكير وهما يتبادلان روح الماكث في الغيهب.
أين اختفت بنية المجتمع؟
اتخذت قصة الكاتبة سهى جودت المعنونة بـ “الباص.. حي صلاح الدين نموذجاً”، وسيلة النقل العامة مكاناً للأحداث الحالية، والأحداث الفلاشباكية العائدة بالذاكرة إلى صورة المجتمع السابقة، وما تعكسه من آداب عامة، وعادات إيجابية مقارنة باللحظة التي تجمع عدة عناصر لها دلالاتها مثل: الازدحام، ورواتب الموظفين، وشهر رمضان، لتوصلنا إلى وجود سارق في الحافلة العامة سرق محفظة السائق ورماها من النافذة حالما صرخت الراكبة الواقفة خلف السائق، علماً أنها البطلة المتطابقة مع لسان الراوية جودت، ليضج الخبر، بعد ذلك بين المعلمات والمعلمين، ثم ليكتمل التصوير الواقعي مكانياً مع آخر خط صلاح الدين، حيث تسكن، وما يرافق ذلك من ضجيج السائقين، إضافة إلى ما يتداعى من الأفكار المقارنة بين سلوكيات الحياة السابقة والمعاصرة، مثل قولها: “رحم من قال: أفضلية الجلوس للسيدات”.
وتؤكد القصة بنقدية إشارية وفصيحة على أبعاد سلبية في بنية المجتمع، إضافة إلى نقدها سلوكيات أخرى، منها إهمال المسؤولين للأمكنة، ومتابعة التحولات الاجتماعية التي تنقلها الكاتبة بين “حكي” تسجيلي وتصويري، ووهم ينتاب المواطن، لاسيما عندما يظن أن المسؤولين سيزورون المكان، لكن بطلة القصة حين نزلت إلى الشارع، تخبرنا بأنها لم تنصدم لأن كل شيء كان كما تركته بالأمس!.
تعذيب البطل والمتلقي
بدوره، قرأ الكاتب كامل مسقاني قصته (طلقة قناص)، معبّراً عن معاناة الجنود مع الضابط المسؤول عنهم في التدريب، متحدثاً عن الحالة النفسية الجوانية الشاقة للجندي- القناص، بطل القصة، وهو يتعذب خلال التدريب، ويتمنى لو يتخلص من مدربه بأية وسيلة.
وتوحي القصة بأن السارد الحكواتي هو ذاته الكاتب المسجل للتفاصيل الداخلية والخارجية بوصف تصويري، ووصف واقعي جداً اقترب من الحشو، لو تم حذف بعضه لما استطالت القصة حجماً، ولما شعر المتلقي بالتعذيب أيضاً، ولجاءت إيقاعات الانتقال متسارعة وهي تحكي عما يحدث في معسكر لجنود فصيلة القناصة، وكيف أخبرنا جنود القصة: “بدونا هياكل عظمية مجهدة، وصورنا ممتلئة بالحقد والانتقام، لكن لماذا كل هذا التعذيب؟ حتى ظننا ضابطاً يدربنا كأنه عدونا”، وما إن تصل الأحداث إلى الخاتمة حتى يكتشف المتلقي أن الجنود صاروا في اتجاه إيجابي آخر، ولا يعرفون كيف يشكرون المدرب الذي علّمهم القوة والتحدي من خلال التعذيب والقهر والصبر، لتعود الضحكة إليهم مع توزيع أوراق إجازاتهم لمدة 10 أيام.
تفاعل مع تنويعات النصوص
اتسمت الأمسية بالتفاعل مع الحضور الذي أكد على اشتراك القصص بالعديد من الثيمات الموضوعية الإنسانية لواقعنا الحياتي اليومي، وعلى تنوعها الفني بين السرد المكثف المثقف، وهذا ما عكسته قصة د. وليد السباعي، وبين الحكاية الناقدة التصويرية للحياة اليومية، وهي ما تمثّلها قصة سهى جودت، وبين الحكاية التسجيلية التفصيلية التي عكستها قصة كامل مسقاني.
غالية خوجة