مجلة البعث الأسبوعية

التهويل بجنون الأسعار لن ينهي معاناة العاملين بأجر.. والحل الوحيد تعديل أجور عام 2011 وفق آخر سعر صرف!!

“البعث الأسبوعية” ـ علي عبود

تابعنا خلال الأسابيع الأخيرة الأخبار والتقارير التي ترصد الأسواق والأسعار ومعاناة ملايين الأسر العاملة بأجر؛ وكانت العبارة المشتركة في جميع الأخبار والتقارير هي: “ارتفاع جنوني للأسعار!”. ويتجنب الجميع تقريبا، وخاصة المحللون والمنظرون، الإجابة على السؤال: هل ارتفعت الأسعار فعلا عما كانت عليه منذ عشر سنوات؟

الأسعار فعلا جنونية، إذا حسبناها وفق مستويات الرواتب والأجور الراهنة، وهذا محور التحليلات والتنظيرات والتصريحات والتقارير، من هنا وهناك.. ولكن يمكن لأي متابع أن يكتشف بسهولة أن المشكلة ليست بالأسعار ولا بالتسعير، وإنما بالانخفاض المستمر للقدرة الشرائية لليرة السورية منذ العام 2011؛ ذلك أن جميع السلع والخدمات لم ترتفع أسعارها عما كانت عليه عام 2011، بل الكثير منها انخفضت أسعارها خلافا لما هو سائد في الأذهان والتحليلات!

وعندما يؤكد تقرير اقتصادي لاتحاد العمال ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق (الأسرة المكونة من 5 أشخاص تحتاج إلى 600 ألف ليرة سورية لسد نفقات المعيشة)، فإن الترجمة الفعلية لهذا الرقم هو أن القدرة الشرائية للـ 60 ألف ليرة في العام 2021 تعادل مبلغ 11250 ليرة فقط عام 2011!! وكلنا يعرف أن متوسط الأجور منذ عشرة أعوام كان أكثر من عشرة آلاف، وكان من يتقاضى هذا الأجر عام 2011 يُفترض نظريا أن يتقاضى الآن – في عام 2021 – ما لا يقل عن 532 ألف ليرة، دون حسبان أي زيادات أو ترفيعات دورية طرأت على الرواتب والأجور!

والسؤال الآن: هل المشكلة في الأسعار التي لم ترتفع فعليا بشكل جنوني؟ أم في الأجور التي انخفضت قدرتها الشرائية بشكل جنوني؟

بعد كل ذلك، نستنتج بسهولة أن التهويل بجنون الأسعار “التضخمي”، على مدى الأعوام الماضية، لم، ولن يحل معاناة ملايين الأسر السورية، فالحل بتعديل دخلها بما يتناسب مع تعديل أسعار جميع السلع والخدمات الحكومية – قبل الخاصة – وفقا للقدرة الشرائية الفعلية لليرة.

إن الخاسر الوحيد على مدى العشر سنوات الماضية كان العامل بأجر، ومن أودع مدخراته في المصارف، وما من حكومة حتى الآن كانت جادة بتعويض الخاسرين الوحيدين، أي العاملين بأجر والمودعين.. فلماذا؟

 

مدخرات المودعين.. تبخّرت

وبعد التراجع المريع في القدرة الشرائية للرواتب والأجور، تلقت الأسر السورية التي أودعت مدخراتها في المصارف، تحسبا للمستقبل والمفاجآت غير السارة – أي كنوع من الأمان وتقلبات الزمان من جهة، وللاستفادة من فوائدها السنوية من جهة أخرى – ضربة قاضية؛ فبين ليلة وضحاها، ولأنها وثقت بما صدر من تصريحات من الحكومات السابقة ومن المصرف المركزي، تبخرت مدخراتها التي لم يعد لها أي قدرة شرائية، كما كانت عليه في العام 2011.

وفي كل مرة يقوم المصرف المركزي بتعديل سعر صرف الليرة، يفقد المودعون نسبة جديدة من قدرة مدخراتهم الشرائية إلى حد أصبحت قيمتها الفعلية معدومة. ولكي لا نبقى في العموميات، لنتابع هذا المثال:

أسرة كانت تضع مليون ليرة في المصرف كوديعة، مقابل 10% فائدة.. ماذا حصل لهذا المبلغ بعد عشر سنوات؟

حاليا القدرة الشرائية لمبلغ المليون ليرة بالكاد تعادل القيمة الشرائية لمبلغ الـ 18700 ليرة، في عام 2011.. نعم، مبلغ المليون ليرة كان يساوي 21276 دولارا بسعر المصرف المركزي، في حين بالكاد يساوي الآن 398 دولارا فقط، بسعر صرف المركزي. فهل يمكن وصف حالة الأسر السورية التي خسرت مدخراتها بطرفة عين بأي كلمات تعبر عن أحوالها المريعة الآن!؟

.. حتى قيمة الفائدة على الودائع انخفضت إلى أقل من1% عن قيمتها الفعلية منذ عشر سنوات!

 

العقارات مثالا!!

نقرأ بين الحين والآخر تقارير تتحدث عن ارتفاع غير مسبوق يإيجارات العقارات، سواء السكني منها أم التجاري. ويستشهد من يصف هذا الارتفاع بأنه غير مسبوق بأن أجرة منزل صغير (غرفة وصالون) في الأحياء الشعبية والضواحي أكثر من ثمانين ألف ليرة. والواقع فإن أجرة هذا المنزل هي فعلا غير مسبوقة، بل وغير مقبولة مقارنة بالرواتب والأجور، لكن السؤال: هل أجور العقارات ارتفعت أم انخفضت مقارنة بالقدرة الشرائية لليرة السورية؟

حسنا!! مبلغ الـ 80 ألف ليرة حاليا، حسب المصرف المركزي، بالكاد يعادل القدرة الشرائية لمبلغ 1500 ليرة خلال سنوات ما قبل عام 2012؛ وهذا يعني أن أجر منزل بغرفة وصالون كان متاحا لجميع العاملين بأجر، مع الإشارة إلى أنه ما من منزل كان صاحبه يؤجره بمبلغ 1500 ليرة، ما قبل عام 2011، ما يؤكد أن بدلات الإيجار لم ترتفع بل انخفضت!

حتى من يؤجر منزله بمبلغ مليون ليرة حاليا، فكأنه يؤجره بمبلغ 21 ألف ليرة حسب القدرة الشرائية لليرة عام 2011.

 

وماذا عن السلع الأخرى؟

ولا يمكن لملايين الأسر أن تشتري اليوم أي نوع من الفاكهة على الرغم من أن أسعارها بالقيمة الفعلية لليرة انخفضت مقارنة بعام 2011، والدراق مثال، فسعر الكيلو الذي بيع بمبلغ 4500 ليرة يعادل مبلغ 80 ليرة عام 2011.

وكيلو الفروج المنظف، الذي تجاوز سعره مؤخرا 8 آلاف ليرة، يعادل فعليا القدرة الشرائية لمبلغ 150 ليرة عام 2011، وكان سعر الفروج حينها أعلى من ذلك بكثير. والفروج المشوي، الذي كان حاضرا أكثر من مرة أسبوعيا على موائد ملايين الأسر السورية، غاب تماما عن موائدها منذ أعوام، لا بسبب ارتفاع أسعاره “النظرية”، ولكن بفعل تدهور قدرتها الشرائية.

وسعر الفروج المشوي وصل مؤخرا إلى 21 ألف ليرة، أي أن الراتب الشهري للعامل بأجر بالكاد يكفي لشراء أكثر من فروجين، وهذه مأساة حقيقية؛ لكن هذا المبلغ يعادل القدرة الشرائية لمبلغ 390 ليرة فقط، في عام 2011، ما يعني أنه لم يكن حينها من مشكلة في الأسعار والأجور، فالهوة كانت محدودة ومقبولة.

ووصل سعر طقم الولادي حاليا إلى 60 ألف ليرة، أي ما يعادل مبلغ 1130 ليرة فقط، عام 2011.

وتراوحت أسعار السمك الذي لم يكن يوما أكلة شعبية بين 7 آلاف ليرة و75 ألف ليرة، أي بما يساوي القيمة الشرائية لمبلغي 132 ليرة و1410 ليرات عام 2011؛ وحينها كانت أسعار السمك اعلى من الرقمين الأخيرين، لكن كان بإمكان أي أسرة أن تأكل السمك في بعض المناسبات الخاصة، على عكس الحال في الأعوام الأخيرة.

 

المشكلة ليست بالكلفة

ومثلما تهربت جميع الحكومات، منذ عام 2011، من معالجة المشكلة الفعلية، أي تعديل الرواتب والأجور بما يحافظ على قيمتها الشرائية في عام 2011، كذلك فعلت الوزارات المعنية بمساعدة العاملين بأجر فعليا – لا كلاميا.. كلها تشغلنا بتفاصيل لن تغير من واقع ملايين الأسر العاملة بأجر:

وزارة التجارة الداخلية تشغلنا دائما بمراقبة الأسواق وتنظيم الضبوط، وأحيانا بسجن المخالفين، ولكن ما انعكاس كل ذلك على تحسين الأوصاع المعيشية للمواطنين؟

كما تشغلنا الوزارة بتكرار معزوفة “أسعار صالاتنا أرخص من الأسواق”، ولكن ما جدوى الرخص في صالات السورية للتجارة ما دامت أسعارها أعلى من دخل ملايين الأسر؟

كما تنشغل الوزارة بمتابعة بيانات الكلفة للمنتجين والمستوردين، وهذه المتابعة غير مجدية ما دامت التكلفة الفعلية، وليست الوهمية، فقط ستؤدي إلى أسعار أعلى بكثير من دخل الملايين.

الإجراء الوحيد والمحدود جدا لوزارة التجارة، والذي ساهم بدعم الأسرة العاملة بأجر، هو بيعها مادتي السكر والرز بأسعار مدعومة، على الرغم من إخفاقها بوصول المادتين إلى الجميع من جهة، وبكون السعر المدعوم لا يزال يشكل عبئا ماديا على آلاف الأسر.

وبدلا من تحميل أصحاب الفعاليات المنتجة للسلع والخدمات مسؤولية ارتفاع الأسعار، على الجهات الحكومية تقديم الدعم لهم، إن لم تكن قادرة على تعديل الأجور بما يتناسب مع الأسعار، فلو دعمت منتجي اللحوم بالعلف والمحروقات لما اختفى الفروج، ولما اضطرت الأسر لشراء بيضة واحدة أو اثنتين بدلا من صحن كامل.

 

المعلمون ودروسهم الخصوصية

ومن المبالغة القول إن بورصة الدروس الخصوصية تشتعل مع اقتراب موعد الامتحانات العامة لطلاب شهادتي التعليم الأساسي والثانوية، فكلمة “اشتعال” مبررة في حالة المقارنة بالدخل فقط، لكن حسب القدرة الشرائية لليرة فإن سعر الدرس الخصوصي، في عام 2011، كان أعلى مما هو عليه عام 2021.

وقيل أن أجر حصة الرياضيات بلغ 25 ألف ليرة، وفعلا هذا المبلغ يتجاوز قدرة أي أسرة محدودة الدخل، لكن الـقيمة الشرائية لمبلغ الـ 25 ألف ليرة، في عام 2012، تعادل القيمة الشرائية لمبلغ الـ 470 ليرة، عام 2011، وحينها كان أجر ساعة الرياضيات لا يقل عن 2000 ليرة!!

وقيل أن بعض المدرسين اتفقوا مسبقا على تقاضي مليون ليرة مقابل 100 ساعة درسية للرياضيات مع بداية العام الدراسي، وهو مبلغ أكبر من دخل الكثير من الأسر، لكن المليون ليرة حاليا تعادل مبلغ 18800 ليرة، عام 2011، ولم يكن حينها أي أستاذ للرياضيات يقبل بتقاضي مثل ذلك المبلغ مقابل 100 ساعة!

ومن يعتقد أن المدرس يتقاضى أجرا عاليا مقابل الدروس الخصوصية يتجاهل أن المدرس من العاملين بأجر، وليس لديه منفذ آخر لتحسين أوضاعه المعيشية، والسؤال: هل يجب أن يتقاضى المدرس الأجر نفسه الذي كان يتقاضاه منذ عشرة أعوام؟

قال مدرِّس رياضيات معبرا عن الواقع المؤلم: “.. نحن أيضًا بشرٌ، ونعيل أسراً بحاجة لتلبية طلباتها المعيشية، ونريد أن نعيش بظروف أفضل.. الفقر لا يرحم!”.

نعم.. أجر الساعة أو الحصة الخصوصية للمواد الأساسية عال جدا، مقارنة بدخل ملايين العاملين بأجر، لكن المسؤولية ليست على المدرس، بل على من يصر على تخفيض الأجور والرواتب مع كل تعديل لسعر الصرف!!

 

الحل المتاح لتحسين الدخل

ما من حكومة على مدى السنوات العشر الماضية إلا ورفعت شعار “تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن”، ولكن الأوضاع المعيشية كانت تتدهور عاما بعد عام. ومع كل تعديل لسعر صرف الليرة، كانت جميع الحكومات تسبق القطاع الخاص بتعديل أسعار سلعها وخدماتها، بما فيها السلع المدعومة كالخبز، أو تحريرها كالمحروقات، بسبب ارتفاع تكاليفها.

وقد عدّلت جميع الجهات الحكومية والخاصة أسعار سلعها وخدماتها بعد تعديل سعر الصرف إلى 2512 ليرة، في نيسان الماضي؛ وكان آخرها تعديل أسعار الدواء والإسمنت والأعلاف؛ وما فعلته الحكومات السابقة – وما تفعلهه الحكومة الحالية – بتعديل أسعار السلع والخدمات مع كل تعديل لسعر الصرف أكثر من منطقي، وأكثر من طبيعي، فلا يمكن أن تبيع السلع والخدمات بأقل من كلفتها.. والاستثناءات محدودة جدا، كالخبز؛ لكن اللامنطقي، واللاطبيعي، أن يكون الخاسر الوحيد مع كل تعديل لسعر الصرف هم العاملون بأجر والمودعون بالمصارف. ولو قامت الحكومات السابقة بتعديل الأجور بما يوازي أي تعديل جديد لسعر الصرف لما انخفضت القيمة الشرائية لملايين العاملين بأجر.

كان متوسط دخل العامل بأجر 10 آلاف ليرة عام 2011، أي بما يوازي حاليا القيمة الشرائية لمبلع 532 ألف ليرة، دون أي زيادات أو ترفيعات يفترض أن تزيد هذا الراتب خلال العشر سنوات الماضية، في حين لا يتجاوز متوسط دخل العامل حاليا 50 ألف ليرة شهريا، أي أقل 11 ضعفا عما كان عليه قبل عشر سنوات.

وبما أن جميع الحكومات أنجزت موازناتها حسب سعر الصرف الرسمي، وعدلت أسعار منتجاتها وخدماتها وفق أسعار الصرف الجديدة، وقبلت بتعديل أسعار وخدمات القطاع الخاص، فلماذا استثنت رواتب وأجور العاملين في القطاعين العام والخاص؟ وقبل أن تناقش أي حكومة سيناريوهات قابلة للتنفيذ لزيادة الرواتب والأجور، فلتتوقف عن خفضها، أو فلتعدها إلى ما كانت عليه، عام 2011، على الأقل.

ولا ندري حتى الآن ماذا كانت تقصد الحكومات السابقة بتأكيدها أنها تعمل “بكل السبل المتاحة لتحسين الأوضاع المعيشية للمواطن”، فما نعرفه هو أن تحسين دخل الأسرة لا يكون بدعم المشاريع الإنتاجية والاستثمارية، ولا بتكثيف الرقابة على الأسواق، ولا بتنظيم الضبوط بكبار التجار، ولا بإلزامهم بالتسعير وفق التكاليف الحقيقية، ولا ببيع المواد في مؤسسات التدخل الإيجابي بأقل من سعر السوق، ولو بنسبة 50 %..

ومهما اجتمعت الجهات الحكومية، ومهما ناقشت، ومهما اقترحت، ومهما اتخذت من قرارات وإجراءات، فإنها تدور في حلقة مفرغة، فالمطلوب قرار واحد يردم الفجوة المرعبة بين الأجور والأسعار. ولكي لا نغرق في تفاصيل مكررة لن توصلنا إلى حل جذري، فإننا نصحح اتجاه البوصلة لنؤكد أن على الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها منفردة، وتجد حلا دائما لمعضلة التوازن بين الأجور والأسعار!

 

الكرة في ملعب الحكومة

نعم، الكرة في ملعب الحكومة، لماذا؟

لأن الحكومة هي من يحدد أسعار جميع السلع والمواد الأساسية والثانوية والكمالية، والحكومة هي التي تقوم بتعديل الأسعار في القطاعين العام والخاص مع كل تعديل جديد لسعر الصرف، والحكومة هي من يحدد الحد الأدنى للأجور في القطاعين العام والخاص، والحد الأعلى للعاملين في القطاع العام؛ وبالتالي، من المنطقي جدا أن تقوم الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور في كل مرة تقوم فيها بتعديل سعر الصرف، وترفع الحد الأدنى إلى المستوى الذي يجب أن يكفي لتأمين المستلزمات الأساسية لحياة الأسرة السورية.

ونؤكد مجددا أن الحكومة عندما تلتزم بهذا الحد الأدنى، فإنها عمليا تلتزم بما نص عليه الدستور، فلم لم تفعلها أي حكومة حتى الآن؟ بل لماذا أصرت الحكومات السابقة، منذ عام 2011، أن يكون العاملون بأجر وأصحاب الودائع المصرفية هم وحدهم الخاسرون مع كل تعديل لسعر صرف الليرة؟

 

بالمختصر المفيد

ان الهدف الوحيد للتهويل بجنون الأسعار كان، ولا يزال، التعمية على الحل الجذري، وهو تعديل رواتب وأجور 2011 بما يتناسب مع آخر تعديل لسعر الصرف في عام 2021؛ وقد أن الآوان لإنهاء ظاهرة استثناء العاملين بأجر فقط من تعديل أجورهم مع كل تعديل جديدد لسعر الصرف الرسمي!