من غوانتنامو إلى غزو العراق.. رامسفيلد تاريخ أسود وإرث مشوه!!
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
كتب سبنسر أكرمان محرر شؤون الأمن القومي في صحيفة “ذي ديلي بيست”، تحت عنوان “موت مجرم لا يعرف الرحمة”: “الأمر الوحيد المأساوي في موت دونالد رامسفيلد أنه لم يحدث في سجن عراقي.. لا تحزنوا على وزير الدفاع، احزنوا على ضحاياه. كان هناك عدد كبير للغاية لا يمكن حصره، لكن البنتاغون رفض العد على أي حال!!.”
عندما تم اختياره وزيراً للدفاع في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، كان رامسفيلد فعلياً من المحاربين القدامى في البحرية، وعضواً جمهورياً في الكونغرس لأربع فترات، ومستشاراً للرئيسين السابقين: ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وشغل منصب وزير الدفاع في فترة ولايتيهما.
في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أرسل الرئيس رونالد ريغان، رامسفيلد بصورة متكررة كمبعوث خاص إلى العراق؛ وبصفته وزير دفاع الرئيس بوش، قام رامسفيلد – الذي شغل منصب رئيس تنفيذي، أو مدير لشركات – بما في ذلك شركتا “غليلياد ساينسز” و”جنرال انسترومنت” – بتجنيد دائرة داخلية من المديرين التنفيذيين السابقين للإشراف على عمليات البنتاغون؛ وكان وزير القوات الجوية، جيمس. ج. روش، ووزير البحرية غوردون إنغلاند، وسكرتير الجيش توماس إي وايت، من هؤلاء المجندين. لذا كان تأثير صناعة الأسلحة كبيراً جداً في الوزارة خلال فترة تولي رامسفيلد، لدرجة أن أحد المعلقين وصفها بأنها “شركة وزارة الدفاع”.
كان رامسفيلد إمبريالياً متحمساً، وواحد من أهم أعضاء ما يسمى بـ “الصقور” أو “المحافظين الجدد”، وكان من المؤمنين بالإمبراطورية، وقائداً بارزاً لمخطط “مشروع القرن الأمريكي الجديد” القائم على هيكلة النظام الدولي المعاصر على أساس اعتبارات نظام القطبية الأحادية، والذي ضم من بين أعضائه الآخرين مسؤولين في إدارة بوش، مثل ديك تشيني وجون بولتون وإليوت أبرامز وبول وولفويتز، ممن يصنفون العالم بين “الخير والشر”، وعلى قاعدة “من ليس معنا، فهو ضدنا”.
صاغ صقور “مشروع القرن الأمريكي الجديد” الرؤى، وخططوا لتغيير النظام في العراق، وفي أماكن أخرى؛ ويعتبر رامسفيلد أحد أهم مهندسي الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان؛ وتجدر الإشارة إلى أنه تم التخطيط لذلك قبل هجمات أيلول بسنوات، فقد تأسس ما سمي بـ “لجنة رامسفيلد”، في الكونغرس”، عام 1998، بعد إقرار “قانون تحرير العراق”، وتحوّلت اللجنة إلى منصة للترتيب للغزو اللاحق؛ وركزت اللجنة على مجموعة من السيناريوهات التي تفترض حصول العراق على أسلحة نووية لاستهداف أمريكا “في وقت وجيز”؛ وقد تطور ذلك إلى العمل، مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، على تلفيق قضية امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل. وفي هذا السياق، لم تكن هجمات أيلول سوى الذريعة المطلوبة لبدء احتلال العراق، حيث وُفرت الذخيرة السياسية الكافية للصقور المحافظين لإطلاق أعتى آلة عسكرية في التاريخ. ورداً على سؤال طرحه أحد الصحافيين، في نيسان 2002، حول الصلات بين الرئيس صدام حسين والإرهابيين الذين يسعون للحصول على أسلحة الدمار الشامل، قدم رامسفيلد ربما أسوأ تفسير، قائلاً: “التقارير التي تقول أن شياً ما لم يحدث هي دائماً مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، لأنه، كما نعلم، هناك أشياء معروفة.. هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، نعلم أيضاً أن هناك أشياء مجهولة معروفة؛ وهذا يعني إننا نعلم أن هناك بعض الأشياء التي لا نعرفها”!!
في الفترة التي سبقت غزو العراق، نشر رامسفيلد أكاذيب إدارة بوش حول برنامج صدام النووي غير الموجود، بينما أكد بشكل مثير للضحك أن غزو العراق “لا علاقة له بالنفط”.
بدأ غزو العراق، الذي أطلق عليه في البداية عملية “تحرير العراق”، بغارة بحرية على منصتي نفط بحريتين في العراق، وقد أشادت صحيفة “ذي نيويورك تايمز” – التي رددت أكاذيب الإدارة الأمريكية بشكل ببغاوي – بهذا الغزو باعتباره أول “انتصار في المعركة من أجل إمبراطورية النفط العراقية الهائلة”. وفي تشرين الثاني 2002، أعلن رامسفيلد أن الحرب على العراق ستكون سريعة وسهلة: “خمسة أيام أو خمسة أسابيع أو خمسة أشهر، لكنها بالتأكيد لن تدوم أكثر من ذلك”. في الحقيقة، وعلى الرغم من أن الرئيس السابق باراك أوباما أنهى حرب العراق رسمياً، في كانون الأول 2011، إلا أن القوات الأمريكية ما زالت تتمركز هناك حتى اليوم – حتى أن الرئيس جو بايدن قصف العراق مؤخراً.
عندما احتلت بغداد، كان أحد المواقع الأولى التي قامت القوات الأمريكية بتأمينها مقر وزارة النفط. وفي غضون ذلك، نُهب المتحف الوطني العراقي الذي يضم قطعاً أثرية قديمة لا تقدر بثمن، تعود إلى تاريخ بلاد ما بين النهرين البالغ 5000 عام؛ كما تمت سرقة الآلاف من التماثيل والمخطوطات والكنوز الأخرى التي لا حصر لها، والتي يعتبر بعضها من بين أقدم الأوابد التي صنعها الإنسان.
عندما تمت مواجهته بصور النهب، قال رامسفيلد باستخفاف: “هذه الأمور تحدث (..) إن الصور التي تراها على شاشة التلفاز مراراً وتكراراً، هي الصورة نفسها لشخص يخرج من بعض المباني حاملاً مزهرية.. إنك ترى الصورة نفسها 20 مرة، وتعتقد أن العديد من المزهريات يتم سرقتها، فهل من الممكن أن يكون هناك العديد من المزهريات في جميع أنحاء البلاد؟”.
لقي آلاف الجنود الأمريكيين أثناء غزو واحتلال الولايات المتحدة للعراق حتفهم، وراح مئات الآلاف من العراقيين ضحية لهذا الغزو، لكن مسؤولي إدارة بوش يتجاهلون موت مئات الآلاف من العراقيين. وعندما سُئل رامسفيلد عن سبب سماع عدد القتلى الأمريكيين وتجاهل الضحايا العراقيين، أجاب بهدوء: “إننا لا نقوم بإحصاء عدد الجثث لأشخاص آخرين”.
اشتهر رامسفيلد بالتسبب بقتل آلاف البشر خلال حربي أفغانستان والعراق، كما أمر بوضع السجون السرية الأوروبية وإجراء الاعتقالات السرية، وتسبب باعتقال أعداد كبيرة من البشر، واستخدام جميع أساليب التعذيب خلال الاستجواب؛ كما أسس أكبر معتقل في العالم وهو معتقل خليج غوانتانامو، وأمر باستخدام جميع أساليب التعذيب، ومنها الاغتصاب واستخدام الكلاب، والضرب، والصعق بالكهرباء، والإيهام بالغرق، والقتل خلال استجواب المعتقلين، وحرمانهم جميعا من المحاكمة العادلة. ومع ذلك، لم تقم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بإقفال غوانتانامو، وكذلك أصدر أمراً مكتوباً باستخدام إحدى وسائل التعذيب هناك، وهو أمر أوقفه قرار للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عام 2009، لكن خسارة حزبه انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وسيطرة الجمهوريين على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب بعدها، منعت إقفال المعتقل سيئ الصيت.
كما اشتهر رامسفلد بتأسيس سجن أبو غريب خلال غزو العراق، واشتهر السجن باستخدام جميع أنواع أساليب التعذيب حتى يشمل التعذيب قتل المعتقلين العراقيين، كما فضحت ذلك صحيفة “ذي نيويورك تايمز،” إذ قامت بتسريب عدد كبير من صور داخل السجن واستخدام جميع أنواع التعذيب في حق المعتقلين. وحتى هذا التاريخ لم يقدم رامسفيلد إلى المحكمة أو محاكمته على جرائمه”.
قالت جانيس كاربينسكي، الضابط في سجن أبو غريب، أنها رأت بأمِ عينيها مذكرة موقعة من دونالد رامسفيلد حول استخدام وسائل الاستجواب القاسية ضد المعتقلين العراقيين، والتأكيد على الالتزام بتنفيذها، حيث شددت الوثيقة على إجبار المعتقلين على الوقوف لوقت طويل، ومنعهم من النوم وعدم تقديم وجبات الطعام لهم بشكل منتظم، وإسماعهم موسيقى صاخبة جداً، لإشعارهم بالانزعاج وعدم الراحة.
كان لرامسفيلد أيضاً دور أساسي في برنامج التعذيب لإدارة بوش، فقد وافق على أساليب التعذيب التي استخدمتها القوات الأمريكية في خليج غوانتانامو وأبو غريب، وأماكن أخرى – أماكن كان السجناء يتعرضون فيها أحياناً للتعذيب حتى الموت؛ كما أصدر توجيهاً يسمح للجلادين بمنع الرعاية الطبية عن السجناء قيد الاستجواب الذين كانت إصاباتهم الخطيرة ناجمة عن طلقات نارية. وفي وقت لاحق، طلب رامسفيلد من الأطباء الشهادة بأن المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب كانوا مؤهلين “طبياً وعملياً” لسوء المعاملة.
وعندما تكشفت فضيحة صورة التعذيب في أبو غريب، أنكر رامسفيلد معرفته بالانتهاكات.
كتب الجنرال أنطونيو تاجوبا – الذي قاد عميلة التحقيق – تقريراً يتعلق بالتعذيب الأمريكي في أبو غريب، قال فيه إنه التقى رامسفيلد وكبار ضباط البنتاغون، قبل أن يدلي وزير الدفاع بشهادته أمام مجلس الشيوخ حول الانتهاكات في السجن سيئ السمعة.
وأضاف تاجوبا – الذي شاهد آلاف الصور لإساءة معاملة المعتقلين – إنه سأل رامسفيلد عما إذا كان ما يحدث في السجن العراقي هو “سوء معاملة أم تعذيب؟”، وقال: “وصفت له معتقلاً عارياً ملقى على الأرض المبتلة، مقيد اليدين وقد غطى وجهه البراز ويتم سحبه أمام سجناء عراقيين كنوع من التهديد والتأكيد علي أن هذا سيكون مصير من يقاوم الاحتلال الأمريكي للعراق، فرد رامسفيلد: “هذه ليست إساءة.. إنها تعذيب”!!
مع ذلك، أدلى رامسفيلد بشهادة، أمام مجلس الشيوخ، بأن أحداً في البينتاغون لم ير صور التعذيب في سجن أبو غريب. لكن التحقيق الذي أجرته لجنة الخدمات العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ خلص إلى أن “تفويض رامسفيلد لأساليب الاستجواب.. كان سبباً مباشراً لإساءة معاملة المعتقلين”.
أثناء خوضه حرباً يُزعم أنها تهدف إلى هزيمة الإرهاب في بعض أجزاء العالم، دعم رامسفيلد الإرهاب في أماكن أخرى، ولاحق الحلفاء في الحرب على الإرهاب، وتودد إلى الحكام المستبدين.
في غضون ذلك، خلص تقرير لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ إلى أن رامسفيلد ترك بن لادن يهرب، في كانون الأول 2001. وذكر التقرير أيضاً أن إخفاقات رامسفيلد جعلت الأمريكيين في نهاية المطاف أكثر عرضة للإرهاب.
في العام 2004، شكل رامسفيلد فريق عمل لدراسة الموضوع خلص إلى أن “المسلمين لا يكرهون حريتنا، بل يكرهون سياساتنا”، وأشار تقرير فريق العمل إلى “التدخل الأمريكي المباشر في العالم الإسلامي”، والدعم الأمريكي للحكام المستبدين العرب، والأهم من ذلك كله “الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان”. ومع ذلك، بقي رامسفيلد مشجعاً غير نادم للحرب وللإمبراطورية حتى النهاية.
وغردت ميديا بنجامين، الناشطة السياسية الأمريكية التي شاركت في تأسيس مجموعة “كود بينك” النسوية المناهضة للحرب “نساء من أجل السلام، إن “إرثه من الحروب في العراق وأفغانستان لا يزال على المحك”.
كما غرد الصحفي والمؤسس المشارك لموقع “ذا انترسيبت”، جيريمي سكاهيل: كان دونالد رامسفيلد مجرم حرب لا يعرف الشفقة ولا الرحمة، أشرف على التعذيب الممنهج والمذابح بحق المدنيين والحروب غير الشرعية.. هذا هو إرثه، وهكذا يجب أن نتذكره إلى الأبد”.