عناء الذاكرة… ستكون فضيلة الجميع الوحيدة أنهم كانوا ذات مرة في هذا العالم!!
“البعث الأسبوعية” ــ عُلا أحمد
“أشعر بأني أفقد أوراقي، الأغصان والرياح والمطر، لا أدري ما الذي يحصل، كل ما أعرفه أن ساعتي على معصمي”، جملة تعني وصول فقدان الذاكرة للذروة؛ وبما أن الذاكرة مضطربة وفي مراحلها الأخيرة، فإن الوعد بغد أفضل، ومن الممكن المضي قدماً، وكأن الأمس مجرد خبر لكان، أصبح غير ممكن بما أن اليوم لا وجود له، والأمس والغد هما أيضاً لا يدركان.
كل شيء على ما يرام.. أو هكذا يبدو!!
كمشاهد، تدرك أولاً أن شيئاً ما ليس صحيحاً تماماً عندما تزور آن والدها يوماً ما كالمعتاد، باستثناء أنها ليست آن التي نتعرف عليها، تم استبدالها بممثلة مختلفة، من هي؟ لا يمكن أن يكون كلاهما ابنته آن! ماذا يحدث هنا؟ أثناء وجودنا هناك، لم يتغير ورق الحائط والأثاث في الشقة منذ زيارتها الأخيرة، حدث مربك!! تتساءل عما إذا كنت قد فاتك شيء ما، لا يمكنك تتبع من هو وماذا؟ تختلط الأسماء والوجوه، الجدول الزمني غير واضح، لكن بالطبع هذا هو بالضبط موضوع “الأب”: الخَرَف المتفاقم لدى أنتوني الذي لا يستطيع فهم ما يجري حوله. هي تجربة مشاهدة صعبة، وغالباً ما تكون قاسية جداً ليس فقط بسبب رواية القصص الممزقة ولكن بسبب الأداء الرئيسي المدمر من هوبكنز.
ألا تتذكر!؟
فيلم “الأب” لا يصنف على أنه من أفلام الرعب بالمعنى التقليدي، لكنه يعتبر من أنواع الرعب المخيف، فالفيلم يتحدث عن التعايش مع الخرف، تلك الحالة العقلية المروعة التي تؤثر على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم. يجمع “الأب” بين الغموض والدراما النفسية، هو تصوير مهيب للأشياء التي تتساقط، فالناس والمحيطون والوقت نفسه أصبحوا زلقين أكثر من أي وقت مضى.
“ألا تتذكر؟!” يصبح هذا السؤال غير الضار جسراً للمحادثة وحشواً في الكلام اليومي، سؤال لا يستطيع أنتوني تحمله بشكل متزايد، حيث أنه قد بدأ الانزلاق الحتمي إلى الخرف. لقد فقد الوقت المعنى بالنسبة له على الرغم من أنه يحاول مواكبة ذلك من خلال التحديق المستمر في ساعته إذا كان بإمكانه فقط العثور عليها.
أنتوني “أنتوني هوبكنز” يبلغ من العمر 80 عاماً ويعاني من الخرف. في بداية الفيلم تزوره ابنته آن “أوليفيا كولمان” للاطمئنان عليه، وتجد أن حالة والدها بدأت تأخذ منعطفاً نحو الأسوأ، وأصبحت نوبات مزاجه شديدة، هو عنيد ومتحدي، ويصر على أنه قادر على إدارة شؤونه بمفرده، لكن من الواضح أن هذا ليس هو الحال، نظراً لعادته في وضع أغراضه في غير مكانها مثل الساعة التي تتلاشى بشكل غامض من معصمه، وعدم قدرته على تذكر الأسماء والوجوه، بما في ذلك ابنته آن.
يتضح مع استمرار الفيلم أن عقل أنتوني هو الذي يلعب عليه الحيل، وما يجعل الفيلم مقلقاً للغاية هو الطريقة التي تربط المشاهد مباشرة بتجربته الذاتية، بحيث يبدو أن أسس القصة تتغير عشوائياً من مشهد إلى آخر، فيعيش المتلقي في بحر من ذكريات “أنتوني”، كل تطوير جديد للحبكة يقوض ما قبله.
من بداية فهم ما يحصل مع أنتوني، ستتملكنا هواجس كثيرة سنعيش الارتباك والتشتت والضياع.. “الأب” لا يقدم إجابات فلا أحد يستطيع حل لغز الشيخوخة مقدماً، وعندما يحين الوقت يجب علينا التنقل بمفردنا حتى لو كنا محظوظين بما يكفي لأن نكون محاطين بأشخاص يحاولون المساعدة.
من المسرح إلى الشاشة
نجح الكاتب والمخرج فلوريان زيلر في اقتباس مسرحيته الفرنسية الحائزة على جائزة عام 2012 التي تحمل الاسم نفسه في تحقيق إنجاز رائع، فهو استطاع أن يضعنا في ذهن أنتوني المريض بطريقة تسمح لنا بتجربة ارتباكه كما لو أنه يحصل معنا، ويعرض في الوقت نفسه وجهة نظر القائمين على رعايته وأحبائه الذين يحاولون تهدئة مزاجاته المتقلبة وتنظيم ذكرياته المختلطة. يوضح زيلر: “ما أردت فعله لم يكن سرد القصة من الخارج، بل من الداخل ووضع الجمهور في موقع نشط، كما لو كانوا في رأس الشخصية الرئيسية. أردت أن يكون الأب أكثر قليلاً من مجرد قصة، ولكن كتجربة – كما لو كنت المشاهد – هو الشخص الذي يفقد اتجاهك”.
كتب زيلر “الأب”، لأول مرة، قبل عقد من الزمن كمسرحية، وكتبت بالفرنسية لغته الأولى، وتم عرض المسرحية لأول مرة، في باريس عام 2012. وأشاد النقاد بالعمل وحصل على العديد من الجوائز؛ وكتب المؤلف البالغ من العمر 41 عاماً المسرحية بناءً على تجربة شخصية، فكانت القصة عن جدته التي بدأت تعاني من الخرف عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، ويقول: “عندما كتبت المسرحية، كان الأمر يتعلق كثيراً بمحاولة التواصل مع تلك المشاعر”. ومع ذلك عندما تعلق الأمر باقتباس المسرحية للشاشة، فقد تجنب القيام بمهمة النسخ واللصق؛ لذلك عمل بجد على السيناريو مع الكاتب المسرحي البريطاني، السير كريستوفر هامبتون، لجعله سينمائياً قدر الإمكان.
يتميز “الأب” بسيناريو فائق الجودة، ما يجعل المشاهدة غير مريحة. إنه يجعلك تتحرك في مقعدك بالطريقة المخيفة التي رسم بها فلوريان تفكك عقل أنتوني.. إنه أمر مفجع ولكن في الوقت نفسه يوجه التركيز إلى الجانب المهم بشكل فريد في حياة الشخص المصاب بالخرف التدريجي ألا وهو الوقت.
أداء متفرد
“الوقت يمر” عبارة بسيطة بالنسبة لنا – نحن “الأشخاص العاديون” – لكنها نوع من الظلم عندما يحول فلوريان الوقت إلى الشرير الكبير لأنتوني الذي ليس سوى رجل لطيف يحب ساعته وتتبع الوقت، ولكن مع بدء الانهيار سيأتي يوم لن يعود قادراً فيه على فعل ما كان شيئاً اعتيادياً، ولن يكون الأمر مهماً حتى لو استطاع الاستمرار في فعل ذلك، لأنه – بمرور الوقت – سيفشل عقله الضعيف في إرفاق المعنى بأفعاله.. هذا الإدراك هو الضربة المؤلمة التي يلقيها فلوريان علينا كمشاهدين، وهو يرشدنا خلال اللحظات التي نشهدها، حيث تبدأ ذكريات أنتوني في التعكير أكثر عليه، وأنه لم يعد هناك “شيء مضحك يحدث” عندما يعلم أنتوني أن “أوراقه” بدأت تذبل.
في إحدى اللقطات نجد أنتوني يجيب عن تاريخ ميلاده (31 كانون الأول عام 1937)، وهو تاريخ ميلاد أنتوني هوبكنز نفسه؛ يأتي الفيلم كتتويج لشيخوخته، وتكريماً لكل أبناء جيله الذين يهرمون معه.. كان أداؤه مليئاً بالحكايات والتشنجات والفروق الدقيقة، مزج اليأس الصامت مع دفعات من الفرح العدواني تقريباً. ومن الواضح أن هوبكنز كان مستمتعاً بالتحدي الذي تم طرحه عليه، ففي بعض المشاهد يكون أنتوني قوياً وحيوياً، وفي حالات أخرى ينحني مثل ملك مريض محاولاً التمسك ببعض الاكتفاء الذاتي وفي أحيان أخرى يزمجر كالطاغية، ولكن هناك لحظات يكون فيها حزيناً وضعيفاً مثل قطة. هو بهذا الأداء المتفرد استطاع إيصال تعب كل من يعاني من فقدان الذاكرة وضياع الذكريات، هو أداء يحمل في طياته واجب الذكرى، حيث أن الجميع ستكون فضيلتهم الوحيدة أنهم كانوا هنا ذات مرة.. في هذا العالم، وبغيابهم لن يبقى لهم سوى من سيتذكرهم كقريب أو صديق أو محب، فكل بذاكرة الآخر رهين.