البريكس الصاعدة بقوة.. لماذا غابت فجأة؟
محمد نادر العمري
في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية التي عرفت بأزمة “الرهن العقاري” في عام 2008، والتي أرخت بظلالها على معظم الاقتصاديات الرأسمالية العالمية والمرتبطة بها، كانت توقعات الخبراء طويلة الأجل في كثير من مراكز الدراسات، تؤكد أن منظمة “البريكس” التي تأسّست رسمياً في عام 2009 من قبل أربع دول قبل انضمام جنوب أفريقيا إليها عام 2010، ستسهم بنحو 50% من أسواق الأسهم العالمية بحلول 2050، وسيتجاوز ناتجها المحلي الكلي مجتمعة مثيله في الولايات المتحدة آفاق 2020.
ورغم التباعد الجغرافي بين دول التكتل فإنه عامل حيوي من الناحية الجيبولتيكية، لأنه يمثل وجوداً للمنظمة في كل القارات باستثناء أوروبا، كما أن معظم هذه الدول تحتل مواقع جغرافية مهمّة في قاراتها وتسيطر على موارد متعدّدة تحقق للبريكس تكاملاً في عدة مجالات حيوية كالموارد الأولية والطاقة التي يبلغ حجم إنتاجها في دول البريكس 40.2% من الحجم العالمي وفق تقرير القمة في عام 2012.
القوة الأولية لمنظمة البريكس ظهرت بداية من خلال القرار السياسي للدول الأعضاء في تأسيس المنظمة وإعلانها الرغبة في التخلّص من الهيمنة الرأسمالية الأمريكية على طبيعة النظام الدولي عبر مجموعة السبع أو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهيمنة الدولار على التداول العالمي، في حين مثل العامل الثاني من خلال وتيرة نمو دولها السريعة، وكذا عدم تصدع اقتصاديات هذه الدول بعد الأزمة المالية 2008، إضافة إلى ذلك القوة الديموغرافية للتكتل، حيث يقطن مجموعة دول البريكس نحو 3 مليارات نسمة بنسبة 42.1% من إجمالي سكان الأرض، كما تتربع هذه الدول على مساحة 39،7 مليون كم2 بنسبة 29.8% من مساحة اليابسة العالمية، أما من الناحية الاقتصادية فيبلغ رأسمال مجموعة “بريكس” ما يقرب من 200 مليار دولار تمّ تمريرها في عدة مشاريع مشتركة، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول البريكس سنة 2016 نحو 16.4 تريليون دولار بنسبة 22.3% من الحجم العالمي، واستحوذت على قرابة 15% من التجارة العالمية في العام نفسه. وعوامل القوة التي تستند إليها بريكس تكمن في الجانب الأول بوجود اثنين من أعضائها وهما روسيا والصين تمتلكان حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، وهما عضوان دائمان فيها، ومن الجانب الاقتصادي تحتل اقتصاديات بعض دول البريكس مراتب متقدمة على الصعيد الدولي على النحو الآتي: الصين الثانية عالمياً، الهند الرابعة عالمياً، روسيا السادسة عالمياً.
أما في مجال القوة العسكرية، فتمتلك ثلاث دول القوة النووية “روسيا، والصين، والهند” نحو 3060 رأساً نووياً (روسيا وحدها نحو 2800 رأس نووي) بنسبة تقارب 52% من الحجم العالمي، وحجم الإنفاق العسكري لدول التكتل مجتمعة شكل عام 2018 أكثر من 10.8% من حجم الإنفاق العسكري العالمي. وكانت المعلومات تشير إلى أن دول المجموعة كانت تسعى لرفع سقف طموحاتها وحجم إنفاقها مجسّدة ذلك في توسيع قاعدتها الصناعية العسكرية وتمويل البحوث التكنولوجية وتطوير القدرات العسكرية، وهذا يؤكد حرص دول البريكس على تأمين كل موارد القوة، وألا تقتصر فقط على الجانب الديموغرافي والاقتصادي فحسب، بل حتى على قدراتها العسكرية لتشكل وسيلة لحماية مصالحها وامتلاك وسائل ردع ضد خصومها.
ومع ذلك كان يؤخذ على البريكس مجموعة من السلبيات، والتي أدّت إحداها إلى إحداث تخلخل في دورها الدولي وصعودها الذي وصف بالسريع، من أبرز هذه السلبيات أن معظم دولها تتأثر بتغيير نظام الحكم فيها، وغياب التماسك الاجتماعي، وفقدان العمل الجماعي في كل الجوانب، فضلاً عن مساعي الغرب والرأسمالية الدولية لاستخدام كل إمكاناتها لوقف نموها، وهو ما تحقق صراحة بعد وصول مرشح أقصى اليمين جايير بولسونارو للرئاسة في البرازيل مدعوماً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.
السؤال اليوم هو: ما هي صور أو ملامح استمرا ر بريكس في المستقبل؟.
- الصورة الأولى، تجاوز وضعية البرازيل واستمرار صعوده، وهذا يفترض قدرة الدول المتبقية على تجاوز خلافاتها البينية وخاصة في الشؤون الإستراتيجية والتقاء مشاريع كلّ من هذه الدول حول إستراتيجية تغيير بنية النظام الدولي الراهن، والانتقال إلى النظام الدولي المتعدّد الأقطاب الذي ينهي عهد الهيمنة الأمريكية في العلاقات الدولية، والاتجاه نحو العمل المؤسّسي الجامع بين الدول لتجاوز ما حصل في موقف البرازيل بتغير نظام الحكم، وكذلك مرونتها في تجاوز العقوبات وتوسيع دائرة التعاون بالعملات المحلية والتكامل في تبادل الموارد الأولية والسلع المنتجة، والاتجاه نحو تشكيل بنك مشترك لتمويل مشاريع هذه الدول والاستثمار في الدول الأخرى.
- الصورة الثانية، إخفاق البريكس في القدرة على الاستمرار كفاعل دولي قوي في الساحة الدولية، وخاصة في حالة استمرار تأثر الأوضاع الداخلية لهذه الدول وموقفها من المنظمة، وعدم القدرة على معالجة التحديات الداخلية والخارجية، وتغليب التعاون الثنائي على العمل الجماعي المشترك.
- الصورة الثالثة، بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه بانتظار حدوث ظروف مواتية تسمح لدول البريكس بالعودة لاستثمارها في المجتمع الدولي للفت الانتباه لثقلها ووزنها السياسي والاقتصادي والتكنولوجي، على الرغم من حصول جائحة كورونا وانتشارها والتي كانت من الممكن أن تشكل إحدى هذه الفرص في إثبات فعالية وجود بريكس.
لعلّ العالم استبشر خيراً بعد ظهور البريكس في التخلّص من الهيمنة الرأسمالية، ولكن على ما يبدو أن التخلّص من هذه الهيمنة يحتاج إلى الأدوات نفسها التي تحارب بها أميركا، بمعنى وجود سلة عملات، ومواقف سياسية صامدة، وعلاقات قائمة على المصالح المتبادلة وعقلية علمية للمواجهة، فالرأسمالية المنمّقة على شكل حسناء فاتنة وجاذبة ومغرية، تخفي في باطن أحشائها وحشاً مفترساً دون رحمة!.