ثقافةصحيفة البعث

ذقن أبي.. وحدود العالم السحري

تمرّ ذكرى يوم الأب عابرة خفيفة الظل كتعب آبائنا غير الملحوظ لنا نحن الجاحدين حقهم أبداً، وهذا ليس بتعميم بقصد التجريح، ولكنه حال جميع الأبناء حتى من يحاول منهم مجاراة عطاء أبيه بردّ الجميل، فأين بالله ستجد ما يردّ المكافئ لوقفة واحدة من وقفاتهم على طول الأيام وهم يكدون ويجهدون في حرّ الشمس وقرّ البرد لتحصيل لقمة العيش ومبالغ الدراسة والرعاية الصحية وكل متطلبات نمونا الغض.

حالي كحال الكثيرين من أبناء هذه الأرض المجبولة بعرق ودم آبائنا لم أكن أعرف في يوم شروق الشمس على بيتنا ووالدي فيه، كان يستيقظ مع الفجر ويخرج إلى دكانه الصغير ويبدأ بشغفه المستمر عجن صواني الحلويات وتحضير المتطلبات الخاصة بالسندويش المنوع وتجهيز المطعم الصغير لاستقبال الناس.

كانت رائحة شواء الشعيبيات والنمورة (البسيسة بالسميد) أقوى الروائح التي مازالت عالقة في ذاكرتي حتى الآن، فأنا غاد لمدرستي وأنا أقفل راجعاً لا بد من المرور على تلك القطعة الهابطة من جنات عدن فيطيب لي أن أشهد مصنع الحلويات من أطعمة ومن كلمات وعبارات وطيب معشر وحسن جوار.

ذقن أبوك

تعلق في ذاكرتي عدة مواقف طريفة كانت تحصل معي في الطفولة، ولعلّ الكثيرين يشاركونها معي لأن الرجل المذكور في المثال يزخر بنموذجه كل الريف السوري البكر، كان على طريق مدرستي حبل من زنابق تنمو كل ربيع معاندة حجارة البيوت وصخور الطريق المرصوفة فتخرج متعلقة بقوة بخيوط الحياة وبأشعة الشمس الوديعة فأغرق في تلقف أنماطها اللونية وأغذي ذاكرتي وأعدّ بتلاتها وأطارد فراشات ودعاسيق وأمشي بانتظام وراء سرب من الأسروعات التي تسير نحو شجرة توت لتستعد لنسج معجزة الخلق والتحول إلى فراش ربيع وكلما كنت أغرق في طبيعة حاراتنا وخضرتها، كنت أقف دائماً أمام عجوز يبتسم لي بود ليسألني كل يوم: ابن من أنت؟..

فأقف باستعداد التلميذ الشاطر النجيب وأجيب مفتخراً: أنا ابن أبي– وأذكر له اسم أبي، ليصدمني هذا العجوز كل مرة حين يقول لي مبتسماً: “يلعن دقن أبوك”، سلم عليه وأخبره أن يربط الجدي الصغير بالوتد، أظل حانقاً على هذا العجوز متبرماً بغيظ حتى أصل إلى دكان أبي وأخبره بما جرى، فيزيد من حيرتي ضحكه كردّ فعل فطري لما سمع، فأقع في حيرة أكثر، وحتى حين كبرت وماجت بي الأيام بقيت تلك الحادثة تثير في قلبي الابتسامة، كتبت الحكايات الكثيرة وكلها استمديت ظرفها وطرافتها من أهلي الذين أنتمي لهم في ريفنا السوري الممتد من الوريد إلى الوريد.

نسغ الطيبة العامر فينا

السؤال الذي يؤرقني ويكبر في وجداني يوماً بعد يوم، كيف سنورث هذه اللحظات ونؤرشفها بطريقة فنية جميلة تليق بأطفالنا؟ كيف نحافظ على هذا النسغ ونعيد ابتكاره بمتطلبات أيامنا الحالية.

….

في المقطورة الأخيرة

استوقفتني ملياً قصة جميلة وذات مغزى عميق، مأخوذة من صفحات فرنسية عن كاتب مجهول، تقول القصة:

في كل عام كان أهل الطفل “مارتان” يصطحبانه في القطار عند جدته ليقضي عطلة الصيف هناك. وعندها يتركونه ويعودون في اليوم التالي.. ثم في أحد الأعوام قال لهما: لقد أصبحت كبيراً الآن.. ماذا لو ذهبت وحدي إلى جدتي هذا العام؟.

وافق الأهل بعد نقاش قصير.. وها هما في اليوم المحدّد واقفان على رصيف المحطة يكرران بعض الوصايا عليه.. وهو يتأفف: لقد سمعت ذلك منكما ألف مرة، وقبل أن ينطلق القطار بلحظة، اقترب منه والده وهمس في أذنه: “خذ هذا لك إذا ما شعرت بالخوف أو بالمرض”.. ووضع شيئاً بجيب طفله.

جلس الطفل وحيداً في القطار دون أهله للمرة الأولى، يشاهد تتابع المناظر الطبيعية من النافذة ويسمع ضجة الناس الغرباء تعلو حوله، يخرجون ويدخلون إلى مقصورته، حتى مراقب القطار تعجب ووجّه له الأسئلة حول كونه دون رفقة، حتى أن امرأة رمقته بنظرة حزينة، فارتبك “مارتان” وشعر بأنه ليس على ما يرام، ثم شعر بالخوف، فتقوقع ضمن كرسيه واغرورقت عيناه بالدموع، وفي تلك اللحظة تذكر همس أبيه وأنه دسّ شيئاً في جيبه لمثل هذه اللحظة. فتّش في جيبه بيد مرتجفة وعثر على الورقة الصغيرة…فتحها وقرأ: “يا ولدي، أنا في المقصورة الأخيرة من القطار”.

……

للأب حقوق كثيرة علينا، يجب أن نغرسها في أبنائنا ونورثهم ذاك النبل والطهر الذي تربينا عليه، ليست فقط المهنة والصنعة والحرفة والكار هو ما نورثه لأبنائنا كما ورثناه عن آبائنا، علينا أن نورثهم ذاك الحب والدفء والأمان وكل المكارم التي وهبونا إياها.

….

هرقل طالب والده بمكرمة الدخول لمجمع الأولمب لينال شرف الحظوة، فمنعه والده كنوع من التربية والتهذيب والصقل ودفعه في أتون الحياة والمغامرات حتى يشتدّ العود وتقوى العزيمة، فكان لنا تلك المغامرات والحكايات الأسطورية التي أثرت ذائقة الأجيال، وأدب الطفل السوري لو بحثنا عن مواضيع تتعلق بالأبوة لكان لنا ما يوازي حكم لقمان لولده ولكن لنا خزينة ثرية بالمواضيع، محورها الأب السوري النبيل.

في عزاء أبي دخل العجوز الذي كان يسب ذقن أبي وأنا طفل وصافحني طويلاً وقال لي وهو لا يزال ممسكاً بيدي: ابن من أنت، فتبسمت له وقلت اسم أبي، ولأول مرة يغير مزحته ليقول بكل وقار: (الله يرحم دقن أبوك).

رامز حاج حسين