كيف نحتمي بالأشواق
“البعث الأسبوعية” ــ حسين عبد الكريم
تتعبُ أعصابُ الأم من كثرة الكذابين، في أبنائها وبناتها.. وليسَ الهمُّ في الكذب، أن رجلاً تلصّصَ على “حاكورة” بصل، للجيران، ليسرقَ منها باقةً خضراء.. أو قطراتِ المطر، وأوراق اعتماد الرَّعد، عند الرّيح.. وليسَ الهمّ ، أنَّ امرأةً نسيت فُصحَي غمزاتها عندَ مكحلةِ الوقت الضريرِ، فجاء “حرَّاميُّ” مشتاقٌ، وبعثرَ في الخطأ مفردات صواب أفكار الأنوثة..
في يومٍ عريقٍ، تلاقيت والصديق الكبير، المبدع الحنون كطفولة الينابيع، والشرس كالأغصان التي في أوّلِ العاصفة، محمد الماغوط.. تحاورتُ وإياه، في ليلِ طفولتهِ وشباب الكوابيس.. سألته عن كتابهِ، المقالات: “سأخون وطني” ؟!..
قال لي: هو كالأم التي، في لحظة الغضب، تدعو على ولدها، ليموت، أو يتكسّر حيله.. ويتقهقر.. هل يُعقل أن أمَّاً تتمنى لبنتِها أو ولدها الدمار أو التعاسة ؟!..
هو يُحبُّ وطنه إلى درجة أنه يخونُ أكاذيبَ الأبناء والبنات.. يكرهُ الخيانات الوجدانية الكبيرة.. بين المشتاقين وأشواقهم..
نبال معوّض، المنضدة المزدهرة، التي يقول عنها الشاعر الكبير، الصديق الأكيد للحياة، جوزيف حرب: “أصابعها.. في تنضيد الحروف وتشكيل هندام الحركات.. ولمع بصيرتها، والخبرة في ترتيب قمصان صحو السطور، في أعجاز القصيدة والصدور، كعينين جميلتين ومكحلة ذكية..”.
آنذاك.. في مهرجان تكريمي للكبير بدوي الجبل، أرّقت أصابعها الأناقاتُ في لغةِ الشاعر، الجبل جوزيف حرب.. قصيدة “الدّواة” التحيّة لـ “البدوي الجبل” !..
المسافةُ لا تنعسُ بين “أوتيل الشام” وسط دمشق، وأصابع نبال المنضدّة البهيّة، في الجريدة، مستديرة كفرسوسة..
يومها كانت تتعثّرُ بالأشواق.. تجيءُ إلى الجريدة “أم جورج”، الأمُّ المزدهرة، أو نذهب إليها، في بلدتها العالية.. تحمل الكرز المنقوع بالنبيذ، أو تحملُ لوزاً وجوزاً وأحزان المواويلِ المسافرة..
أمُّ جورج قريبة الكبير حنا مينا، وصديقة عائلة نبال، وصديقةُ عائلات الأشجار والكروم العتيقة..
في ملامحها تنهضُ بساتين الحكي، تورقُ القصصُ.. تتشهَّى بصائر المحبين أنَّهم في حكاياتها وأصواتِ حياتها الممتدةِ من الحبِّ إلى الحبِّ..
أطلقت اسمَ “الزيتونة” على المطعم الذي أنشأتهُ وأحد أبنائها.. تُبرِّرُ التسميّة: أحبّ الشجرة وحبّاتِ الزيتون.. الزيت.. أبحثُ عن أبٍ روحي مجتهد للمكدوس.. الزيتُ أبوّةُ وأمومةُ المكدوس، هذا الفنُّ السَّاحر.. وتتشارك، في هذه الأخلاقيات الغذائية، أحلام ثمار الجوز.. والثوم.. والفليفلة الحمراء، الناضجة فكرّياً وذوقيَّاً..
الباذنجان، فكرة الأرض، تعطش، على عجلٍ، وتبحثُ عن السقي بشجاعة الجريان.. حنون يحبُّ الألفة..
حنا مينا كريمُ الطبع، مزاجُهُ الجهوريُّ “يفلش” أشواقه، في حضرة شموس الأنوثات.. يودُّ أن يتلهَّى حريقُ أعصابه والحبر بجنونِ.. عواصف النساء.. يكتبُ إلى كاترين الحلوة:
“امرأة تنسى اسمها، وأذكرها..
التحيّة إلى عموم أشواق حنا مينا وأم جورج،
وعائلات اللوز والجوز والزيتون وأشجار المشتاقين
المشردين في حواكير الحاجات..
أمسِ ألتقي والـ “نبال”:
– أراكِ هنا .. تعملين في الأوراق النقدية ..
ألا تتعثريّن.. كعادتك بالأشواقِ.. ومفردات المشتاقين؟!..
– مات كُحلٌ كثيرٌ في غمزاتِ عينيَّ الجميلتين..
فوجدتني هنا.. بعد توقّف الجرائدِ عن الحبرِ..
أشعر بالحزن، لأنَّني أتعثّرُ بآمالِ الأوراقِ النقديّة،
وأنَّني بعيدةٌ عن دروبِ اللوعات..
أصابعي تشتاق هوسَ الحروف، وأمزجة الفتحة والضمة والكسرات المستعارة.. أعرف جيداً جداً جنون الهمزات ووعي حروف الجر.. لا توجدُ عند المال أبجديةٌ تُكافئ العواطف ومفرداتِ الحنينْ العذب.. أخسر في اليوم الواحد عشراتِ العهود مع الشوق، ولا أربحُ مع النقود سوى النقود، الوسيلة الأعجوبة في ليّ أعناقِ الأشواقِ..
– هل ترى صديقتنا الـ “سهام”؟!..
– قبلَ قليل ألقيتُ على كحلها التحيات..
– تصوّر هي الآن تلوي عُنقَ حلمها..
– تُجبرُ قصيدة جسدها، على موسيقا لفافات تبغِ المحترقين بهبابِ كذباتٍ متعددة المقاسات، لتلائمَ كلَّ الكذَّابات والكذَّابين.. وليسَ الكذبُ هنا أن جملةً فعليةً، جاءَت، في ثياب جملةٍ اسمية، أو أنَّ مبدأً، يلبسُ ربطة عنق الخبر، أو أنَّ موسمَ التين، يحضرُ في موسم العرائش..
حواكيرُ المشتاقين، تصيرُ من دون أشواق أو مشتاقات أو مشتاقين.. تصيرُ مملوكةً للاجئي الأشواق، المزودّين بكونٍ أرعن.. يكذبُ في الشهقةِ والزفرة.. ويتآمر على حقائق الناس..
تمتلئ الأسواق باللحظات المهترئة… والخدائع المنقوعة بالمكر الأصغر.. من نهدة تلةِ، أو نبرة مشوار ترابه.. أو مزاج حبّةِ كرز…
أين عريشةُ العناقات.. يا حنا مينا
التي تُوصي أم جورج بها:
العناقيدُ المبتهجة تنام على أكتافِ شفاه النسمات..
الكرزات المنقوعات بالدِّنان، جرأةٌ تُصيبُ اللغةَ بالحرية،
تتأثّر بها عاداتُ النطق وأعصابُ الحنان..
لإفلاتَ من عادات أنَّنا نتعثّر بأشواقنا..
ونزرع المزيد من الحب..
كرومنا الوحيدة المحبون..
جوزف حرب كتب كتاباً ضخماً “المحبرة” يحاول تلخيص نشرة أوجاع الكحل.. وتبقى المحبرة، حتى في الغياب، تُلخص جنوناً كبيراً لشاعر كبير، لا يتوقف حبره عن النطق يُلحن مكحلة، ممنوعة من الهذيان المتهرئ..