مجلة البعث الأسبوعية

من أبرزها كسر الحصار والإنخراط بطريق الحرير آفاق لامحدودة للتعاون الاقتصادي السوري الصيني

البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

لا يمكن الحديث عن آفاق التعاون الاقتصادي مع الصين خلال العقود القادمة قبل الإجابة على السؤال: هل ستكون سورية ممرا رئيسيا في طريق الحرير بنسخته الصينية الجديدة (حزام واحد.. طريق واحد)؟

إذا صدّقنا تقارير ومقالات الإقلام المأجورة في إعلام الدول المتآمرة على سورية منذ مطلع القرن الحالي سنخلص إلى نتيجة مكررة: الصين غير مهتمة بسورية ولن تشارك بإعمارها ولا بإدخالها في مشروعها الاستراتيجي (حزام واحد.. طريق واحد)؟

لكن إذا تابعنا تصريحات قادة الصين وما نوقش في المؤتمرات التي عُقدت حول آليات تنفيذ طريق الحرير بنسخته الحديثة، فإننا سنكتشف إن الصين لم ولن تستبعد أي بلد من مشروعها الاستراتيجي المنفتح على العالم، بل ان الصين تعطي أهمية لسورية لأنها محور ربط استراتيجي بين دول المنطقة بحكم إطلالتها على البحر المتوسط.

وقد أكد السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلة له مع صحيفىة ” فينيكس” الصينية بتاريخ (2019) أن “مشروع طريق الحرير الصيني هو تحول استراتيجي بما يحقق الازدهار، وسورية يمكن أن تكون جزءا منه عبر تطوير البنية التحتية ومساهمة الصين فيها”.

وشدد الرئيس الأسد في تلك المقابلة على أن “سورية تقع على طريق الحرير، وعندما نكون جزءا من هذا الطريق، فالصين تتعامل معنا بشكل ندّي، وليس كدولة كبرى مع صغرى، هناك مصالح مشتركة.. هناك فائدة للصين ولسورية ولكل الدول التي توجد على هذا الطريق..”.

وبعد أقل من عامين على اللقاء حرص وزير خارجية الصين وانغ يي على توقيت زيارته لدمشق يوم أداء الرئيس الأسد للقسم الدستوري لولاية ثالثة ليؤكد من خلالها أهمية سورية بالنسبة للصين ودورها في طريق الحرير الصيني.

والسؤال الآن: ما آفاق التعاون الاقتصادي السوري الصيني خلال القادم من السنوات عبر تفعيل دور سورية في مشروع “حزام واحد.. طريق واحد”؟

المشاريع السورية

لقد كشف الرئيس الأسد في المقابلة عن قيام الحكومة السورية بتقديم 6 مشاريع للحكومة الصينية تتناسب مع منهجية الحزام والطريق، مؤكدا أن “طريق الحرير عبر التاريخ كان يمر في سورية وفي العراق وفي هذه المنطقة، ولكن أيضا طريق الحرير يأخذ اليوم بالاعتبار البنية التحتية المتوفرة لهذا الطريق، فإذاً مع تكريس أو ترسيخ هذه البنية التحتية وتطويرها سوف يمر طريق الحرير في سورية في المستقبل”.

وبما ان المشروع الصيني يتمحور حول ثلاثة ركائز أساسية: المرافئ والسكك الحديدية والطرق البرية، فهذا يعني أن التعاون الصيني السوري سيتمحور حتما حول مشاريع تطوير المرافئ السورية، بل وإقامة مرفأ دولي ثالث لطالما كان في قائمة المشاريع السورية المؤجلة منذ عقدين على الأقل، والتطوير هنا يعني استقبال جميع أنواع السفن مهما كان عمق غاطسها لإفراغ البضائع أو تحميلها، ومن المؤكد إن لدى الصين رؤية غير مسبوقة لدور المرافئ السورية في نجاح مبادرة “الحزام والطريق”.

ولا يمكن الحديث عن دور فعال للمرافىء السورية دون ربطها بسكك حديدية حديثة جدا مع دول الجوار (لبنان والعراق والأردن وتركيا)، ومنها إلى الأعماق الأسيوية والخليجية والأوروبية، وهذا يؤكد مجددا أهمية وجود سورية على طريق الحرير وجدية الصين في تفعيل هذا الدور.

وقد سبق لوزارة النقل أن كشفت عن مشاريع للربط السككي مع العراق وإيران لم يكن بالإمكان تنفيذها بوجود الاحتلال الأمريكي في العراق، وبالتالي فإن تفعيل دور العراق على طريق الحرير متوقف على طرد الأمريكان من سورية، والعراق والذي لم يعد بعيدا بل هو قريب جدا.

وعلى التوازي مع تطوير المرافئ والسكك الحديدية، فإن مبادرة “الحزام والطريق” تعني أيضا تطوير شبكة دولية من الطرقات البرية تربط المحافظات السورية مع بعضها من جهة ومع دول الجوار من جهة أخرى، ولدى وزارة النقل السورية دراسة متكاملة بهذه الطرق تنتظر التمويل لتنفيذها.

ومن الطبيعي أن يرافق تطوير المرافئ والسكك والطرقات تطوير مواز للمرافق المتممة والتي تشمل قطاعات الطاقة وبخاصة محطات توليد الكهرباء وخطوط نقل النفط أو الغاز المكتشف في المياه الإقليمية، وإقامة مناطق حرة صينية سورية، وتطوير قطاعات صناعية كالإسمنت والنسيج والبرمجيات.. إلخ.

 

تفعيل الممر السوري

ومن المؤكد ان الجانب الصيني مستعد لهذا الأمر، ولكن السؤال: متى؟

البعض يرى أن الصين تنتظر استقرار الأوضاع في البلاد لاتخاذ قرار تفعيل دور سورية على “طريق الحرير”، ويرى البعض الآخر ان الصين بدأت فعليا بعرض المشاريع على سورية في المناطق الآمنة، بدليل انه جرى خلال زيارة وزير الخارجية الصيني لدمشق توقيع اتفاقات في وزارة الخارجية والمغتربين بين الجانبين السوري والصيني، وعلى رأسها أن سورية ستكون جزءاً من مشروع الحزام والطريق..

ولا نبالغ في القول إن زيارة الوزير الصيني وانغ يي لدمشق غلب عليها الطابع الاقتصادي بدليل تركيز المباحثات على ضرورة دخول سورية في مبادرة “الحزام والطريق” مع ما يعنيه ذلك من كسر الحصار الغربي والعقوبات الاقتصادية والانخرط الصيني بقوة في إعادة إعمار الاقتصاد السوري ليتمكن بدوره من الانخراط في مبادرة “طريق الحرير” الصيني.

ولعل البداية ستظهر خلال القادم من الأيام بتمويل الحكومة الصينية لمشاريع في سورية وبتشجيع الشركات الصينية للاستثمار أكثر في سورية بدليل ما أعلنه وزير الخارجية الصيني من أن بلاده “ستدعم سورية في تحسين رفاهية الشعب السوري وتسريع عملية إعادة إعمار البلاد، مع الترحيب بسورية لتصبح شريكاً جديداً في البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق، وإن الصين ستدعم سورية أيضاً في معارضة العقوبات أحادية الجانب، وتخفيف أزمتها الإنسانية”.

استعدادات سورية

وبما ان طريق الحرير سيمر حتما من سورية، أو بعبارة أكثر دقة “لا طريق للحرير دون سورية”، بحكم موقعها الجغرافي الذي تشغله منذ قرون طويلة، فإن الاستفادة منه تتطلب استعدادات لوجستية كبيرة، وقد أعربت الصين في جميع المناسبات عن رغبتها بالمساهمة المباشرة في تأسيس البنية التحتية لطريق الحرير، بل إن عدة تقارير كشفت بأن الصين ستتحمل الحزء الأكبر من إعمار سورية بحكم قوتها الاقتصادية وعزمها على جعل طريق الحرير أمرا واقعا.

ومهما قيل في عقد استثمار روسيا لمرفأ طرطوس، فإن أحد أبرز أهداف العقد تطوير المرفأ أن يكون مستعدا للعب دور اقتصادي كبير جدا في تجارة طريق الحرير. ويتضمن المشروع الذي ستنفذه شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية الخاصة التوسيع بالاتجاه الشمالي للمرفأ، وإنشاء مرفأ جديد وفق أحدث المواصفات والمعايير العالمية، وبأعلى مستوى من التكنولوجيا الحديثة والنظم الإدارية المتطورة. وسيؤدي كل ذلك إلى زيادة إنتاج المرفأ من 4 ملايين طن حاليا إلى 38 مليون طن سنويا، وبتكلفة تقديرية تتجاوز الـ 500 مليون دولار، كما أن زيادة عمق الغاطس – الذي يتراوح حاليا من 4 أمتار إلى 13 مترا ليصل بعد التطوير إلى 19 مترا، وهو الأكبر في المنطقة – سيتيح دخول البواخر بحجم كبير وبحمولات عالية تبلغ مليوني حاوية سنويا، بدلا من الحجم المتواضع جدا حاليا، والذي لايتجاوز 20 ألف حاوية سنويا.

وبغض النظر عن أهمية تطوير المرفأ الحالي وإنشاء مرفأ جديد لصالح طريق الحرير، فإن عقد الاستثمار سيحرر سورية من أي عقوبات اقتصادية لأن وجود شركة عالمية مستثمرة للمرفأ من شأنه أن يعطي أجواء إيجابية للسفن العالمية ويحثها على ارتياد المرفأ والمساهمة في وصول احتياجات ومستلزمات الشعب السوري.
ولا نستبعد أن تعمم التجربة على مرفأ اللاذقية من جهة، وإقامة مرافىء أخرى جديدة من جهة أخرى، بما يحقق المنافسة مع دول الجوار والمنطقة، ويجعل من سورية محطة بارزة وفي غاية الأهمية في تجارة طريق الحرير.

وقد كشفت وزارة النقل فعلا عن دراسة تتضمن رؤية خاصة لتوسيع مرفأ اللاذقية وإنشاء مرفأ جديد في المرحلة القادمة، والاستفادة من الموقع الحالي للمرفأ في استثمارات سياحية وعقارية ضخمة، وزيادة حجم التجارة الخارجية عبر سورية، وتمكينه من استقبال السفن الكبيرة وعدم هروبها إلى المرافئ المجاورة.

 

للمشككين

وبعد زيارة وزير خارجية الصين لدمشق، استمر البعض بالتشكيك بمدى جدية المساعدة الصينية في إعادة الإعمار أو بالاستثمار في سورية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”. ولو تعامل هؤلاء بالجغرافية لاكتشفوا بسهولة أنه بدون سورية لا يمكن دخول دول – مثل العراق ولبنان والأردن وغيرها – في مبادرة الحزام والطريق، بل ان الاتفاقيات البعيدة المدى الموقعة بين الصين وإيران ضمن “المبادرة” سيبقى تأثيرها محدودا دون ربط سككي وطرقي بين إيران والعراق وسورية ولبنان.. إلخ.

ثم على ماذا يستند المشككون بضعف المساعدات الصينية لسورية خلال سنوات الحرب الإرهابية على شعبها أو في القادم من السنوات؟

لقد كشف سفير سورية في بكين، عماد مصطفى، في العام 2017، أن “الصين تقدم مساعدات مهمة جداً لسورية، ليست كلها معروفة، ولا أستطيع الحديث عنها الآن، لأن الصين لا تفضل ذلك، ونحن في سورية لا يضيرنا الحديث عنها بل نفتخر بها، ولكن نمتنع عن الحديث عنها نزولا عند رغبة الصين، ولكن نطمئن الشعب السوري أن المواقف الصينية الحقيقية أفضل وأقوى مما تبدو عليه علناً”. وأكد السفير مصطفى في تصريحات صحفية إن الصين “تتعهد بأنها ستكون اللاعب الأكبر والأبرز على الساحة في إعادة إعمار سورية لحظة التوصل إلى حل سياسي لأنها الأقدر على ذلك”.

وما كشفه سفيرنا في بكين أكدته جريدة “الإندبندت” في مقالة نشرتها في 30/ 4/ 2019 بعنوان “التنين الصيني يعود إلى سورية عبر طريق الحرير”، وقالت فيه أن “الصين تراقب التطورات الحاصلة في سورية بعين سياسية وأخرى اقتصادية، وتتأهب لبدء سباق إعادة الإعمار لتأذن لشركاتها العملاقة، كما هو تنينها، الرمز المحبب للشعب الصيني وحكومته، للانطلاق في رحلة استثمارات كبيرة، ساعية إلى كسب صفقات إعادة الإعمار من بوابة طريق الحرير”. وأضافت: “في ظل الهجمة الاقتصادية وتداعيات الحصار وارتفاع حدته.. تسعى الصين بخفة إلى إعادة إحياء طريق الحرير، وهو الطريق التاريخي القديم للقوافل التجارية، الذي تقع إحدى محطاته في سورية والعراق”.

وتؤكد “الإندبندت” أن الصين، التي تُعد من أبرز الدول إلى جانب روسيا الاتحادية الداعمة لسورية منذ العام 2011، تنتظر “ساعة الصفر” لإعادة إعمار البلاد. ووفق المعلومات المتوافرة فإن المشاريع والصفقات التجارية التي يتأهب “التنين الصيني” للدخول في مجالاتها، تتعلق بقطاعات النقل.

وترى الصحيفة أنه ليس عبثاً أن تبدأ العربة الصينية تقدمها من طريق قطاع النقل، بالتزامن مع نداءات بإعادة تفعيل “طريق الحرير”. وبأن الاستثمارات الصينية ستكون حاضرة بقوة في مشاريع المواصلات من خلال مد سكك الحديد وإنشاء مدينة صناعية بحرية ضخمة، وتنفيذ طرق برية دولية. ولعل هذا ما يفسر الغضب الأمريكي من الصين فهي ترفض تنامي دورها الاقتصادي في المنطقة، وهذا ما يفسر أيضا حصارها لكل من إيران وسورية وتهديداتها السافرة للمقاومة العراقية.

وقد تحدث الكاتب الفرنسي تييري ميسان مؤخرا عن أهمية السكك الحديدية في طريق الحرير، وقال: يتوقف مستقبل سورية على إعادة ارتباطها بماضيها، حين كانت نقطة عبور إلزامية بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، وحين كان طريق الحرير في العصور الغابرة يبدأ من العاصمة الصينية القديمة شيان، وينتهي في كل من أنطاكية وصور.
واستمرت سورية عبر تلك القرون في كونها نقطة عبور بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، ​​وكان ذلك أحد عوامل ازدهارها..
إن مشروع بناء سكة ​​حديد تربط ميناء خرمشهر الإيراني على الحدود العراقية، بميناء البصرة، فالأراضي السورية مروراً ببغداد، ليس بالأمر الجديد، فقد تم التخطيط لهذا المشروع قبل الحرب، إثر إنشاء السوق المشتركة التركية – الإيرانية – السورية، لكن مسارات هذا الطريق السككي تعرضت لتخريب ممنهج على يد مرتزقة الغرب، وهو ما أدى إلى خروج القطارات عن الخدمة.

 

تعاون مستمر

ولو استعرضنا مسيرة التعاون الاقتصادي السوري الصيني لاكتشفنا أنه مستمر.. قد يتباطأ حينا بفعل الحرب على سورية، أو يكون مستترا، لكنه لم يتوقف، فالمعلن عنه مساعدات ومنح والمستتر أكثر من ذلك بكثير.

ولم تتوقف زيارة الوفود الصينية إلى دمشق لتقدم عروضا جدية في القطاعات المختلفة: الإنشاءات والاتصالات والنقل والطاقة والإسمنت والتشييد والبناء، وخاصة ما يتعلق بالتشييد السريع في قطاع الإسكان وإعادة الإعمار وتجديد المنشآت الصناعية.

وقد نشهد قريبا مؤتمرا صينيا للاستثمار في سورية يتيح إيجاد قنوات إتصال دائمة لتسريع قدوم الشركات الصينية إلى سورية.

ومن أبرز مجالات التعاون المتاحة مستقبلا تفعيل التبادل التجاري بالمقايضة أو بالعملات الوطنية، أو من خلال إنشاء بنك صيني سوري مشترك لديه فروع في البلدين، أو فتح فرع لمصرف صيني في دمشق. ويعد مشروع النقل بقطارات الضواحي الكهربائية من أهم المشروعات التي قدمها الجانب الصيني، في تشرين الثاني 2020، ويتضمن المشروع قيام شركة “سي آر سي سي” الصينية بتنفيذ وتمويل واستثمار المشروع الذي يساهم في حل أزمة النقل بين دمشق وريفها ويخفف العبء على الدولة بسبب كلفته العالية جدا.

وبما أن الشركات الصينية نفذت معملاً لإنتاج الإسمنت في مصر بطاقة 36 مليون طن، خلال 18 شهرا فقط، فباستطاعتها تجديد معامل الإسمنت القديمة والمهترئة لرفع طاقتها الإنتاجية إلى الكمية التي تتطلبها مرحلة إعادة الإعمار دون الحاجة لإقامة أي معامل جديدة قد تلوث البيئة أكثر فأكثر في مناطق جديدة.

 

أخيرا

يرى البعض إن طريق الحرير بنسخته الجديدة لن يمر بسورية، والبعض الآخر يشكك، أو يجزم، أن الطريق لن يمر في سورية. وهذا التشكيك كان صحيحا عند انطلاق المشروع في عام 2013، أي في ذروة الحرب الإرهابية الكونية على سورية.. ولكن كل شيء تغير منذ العام 2018..

ولو لم تكن سورية محورا أساسيا في طريق الحرير الجديدة لما دعتها الصين للمشاركة في الدورة الثانية لقمة “حزام واحد.. طريق واحد”، في عام 2019، ولما أكد وزير خارجيتها من دمشق، يوم يوم أداء القسم الدستوري، أهمية سورية بالنسبة للصين ودورها في مبادرة “طريق واحد.. حزام واحد”.