ميرفت علي بعد نيلها جائزة “مانديلا” للآداب: حضور المرأة لم يكن مقصوداً بذاته والمعاناة النسائية لا تهمّني بحد ذاتها!!
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
قبل نيلها جائزة مانديلا العالمية للآداب بأسابيع قليلة، شاءت الأقدار أن أتعرف عليها في طرطوس.. دهشت حينها لكم الحب الذي تكنه لمن حولها، ولذلك الفرح الذي تزرعه أينما حلت، فهي لا تنتمي لأولئك المبدعين الذين يعيشون في برجهم العاجي، بل تنحاز وبشدة لأن تكون معهم وإلى جانبهم، وقد كانت تشاركهم فرحتها بحصولها على المركز الأول في مسابقة “صلاح هلال الأدبية” العربية لأفضل قصة قصيرة، عن قصتها “بيروت 75 “، ليعلن بعد أيام قليلة نبأ فوزها بجائزة مانديلا لأفضل مجموعة قصصية عن مجموعتها “القمة”، وهي الجائزة الثانية لها على المستوى العالمي بعد نيلها جائزة سيزار إجيدوسيرانو الإسبانية العالمية عن أفضل نص مسرحي للأطفال ليصبح في رصيدها 17 جائزة عربية ودولية. وميرفت علي عضو اتحاد الكتاب العرب وعضو جمعية القصة القصيرة والرواية، صدر لها في القصة “السيرك والجنازة والخط الحديدي”، وفي الرواية “مريومة وانشطارات دودة القز”، ولها إصدارات في أدب الأطفال والمسرح والبحث العلمي.
كثيرون من الكتّاب يكتبون وعيونهم على الجوائز أي أنهم يكتبون وفقَ معايير معينة لتحظى مشاركاتهم بالفوز.. ماذا عنكِ؟
لا أخفيكِ سراً بأنّني في بداياتي الأدبية، في “بعض” الجوائز التي حصدتُها، قد راعيتُ جانب معايير الجائزة التي لم ترُق لي، ولكنّني تقدمتُ إليها، وفزتُ بأحد مراكزها الثلاثة، لأسباب مادية أكثر منها معنوية، أمَّا فيما تلا من جوائز ومع نضجِ الرؤية الفكرية والتقييمية فقد أصبحتُ أنتقي من لوائح الجوائز ما يتناسبُ مع المنطق وما يترك للمبدع مساحةً أكبر في الاختيار والتشكيل لرؤاه ومعتقداته، وحين اتخذتُ هذا القرار بدأتْ رحلتي مع حصد الجوائز تتكللُ بالتوفيق أكثر وتتسارع وتيرتُها.
بدأتِ روايتكِ “انشطارات دودة القز” قائلة: “كم من الحزن يلزم لكتابةِ رواية بعمر شباب!!” وهنا أسالكِ: كم من الجرأة لزمتك لتنجزي رواية أمطّتِ اللثام فيها عمّا ينخر أوصال مجتمعنا من فساد؟
إنها الجرأة التي تخطّت السائد، ولكنها لم تهزأ بالمعايير الرقابية في المنشورات العربية، ولم تتجاوزها، وهنا سرّ نجاح الكاتب: قولُ ما ينبغي قوله بصيغة غير مستفزة للمؤسسات وللأطر التحكيمية والتقييمية المنبثقة عنها.. نعم، تسلّحتُ بقدر كبير من المكاشفة والصدق الواقعي والفني لتعريةِ الفساد السياسي كما الاجتماعي والقِيَمي، سيما الأمراض السارية والمستديمة المستعصية على العلاج والتي تشوبُ علاقة المرأة بالرجل في محيطنا العربي، وقد أفرغتُ في رواية “انشطارات دودة القز” كمَّاً هائلاً من الاحتقان النفسي خلال التأليف وبعده، وأعتقدُ أنني وفّقت في إراحة كاهل القارئ أيضاً بما بحتُ به من مواجد، وبما قمتُ به من تصفيات للحساباتِ الشخصية مع المجتمع العربي والأفراد في آنٍ معاً، فوجدَ القارئ انعكاساً جليَّاً لأفكاره وهواجسه، وهنا تكمنُ رسالة الأدب الجوهرية، فالكاتبُ مطالبٌ بالمجاهرة بالحق بصوتٍ مدوّ وإلا فلا قيمة للإبداعات التي تخلو من الشفافية والمصارحة.
هل صحيحٌ أنَّ كل رواية هي في جوهرها سيرة ذاتية للمؤلف؟
نعم، إلى حد ما، وأؤكد على نفي الكُليَّة، وعلى الاحتفاظ بالنسبة المئوية التي تعبّر أكثر عن روح الإجابة، فهناك قدرٌ من الذاتية والخصوصية المستقاة من تجربة المبدع تنعكس في مُخرجاته النصيّة، ولكلّ منا نسبة مئوية خاصة به، ولكن لا يجب أن يؤوَّل ذلك تأويلاً اتّهامياً مفاده أنَّ الكاتب يكتب “حرفيّاً” عما جرى معه، خاصة حين يستخدمُ ضمير المتكلم في سرديّاته.. والخلاصة أنّ الكاتب قد يكتب عن تجاربه الخاصة أو ما يشبهها، أو يطعّمها بتجارب الآخرين، أو يتخيّلها، ولكن ليست كل رواية هي “سيرة ذاتية” لمؤلفها، فإذا كانت كذلك فسنرى ما ينصُّ على الأمر تحت عنوان الرواية، كما في رواية “الأيام” لطه حسين.
بين الواقع والخيال ماالذي ينتصر في كتاباتكِ أكثر؟
لا بطولة لأحدِهما على الآخر.. إنهما متنافسانِ لدودان، لكنّهما من ناحية أخرى متساويان في الدرجة والفاعلية في النص، فإذا انتصرَ الجانب التخيّلي قفزنا من ساحِ القصة والرواية إلى حلبةِ الشعر أو الخاطرة، وهما الاستثناءُ الوحيد الذي ينبغي للخيال أن يبزَّ فيهما الواقع في الحضور، أمّا في الرواية والقصة فحريٌّ بهما أن توازنا ما بين الواقعي والمتخيَّل.
بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب أعلنَ أنَّ هذا زمن الرواية.. اليوم في أي زمن نعيش برأيكِ؟ ولماذا؟
عندما أدلى محفوظ بهذا التصريح كان العقد الثمانيني هو زمن المدّ النضالي والسياسي القومي، والرواية أثبتتْ أنها الوعاء الأدبي الذي يستوعب تمدُّدات النبض الوطني وذبذباته، كما أنَّ القارئ العربي كان يحيا إلى حدّ ما حياة رتيبة مملة ويرى في القراءة والمطالعة والثقافة مخرجاً وغذاء فكرياً وروحياً، لذا كان الزمن “المحفوظي” هو زمن الرواية بحق.. أمَّا اليوم فقد ضاقت صدور الناس بالهموم المعيشية، وباتت الحياة والتكنولوجيا في سباقٍ مع الشعوب والأوطان، أيّها يُثبت جدارته في ملاحقة التطور العلمي والحضاري المتسارع، فتبدَّدَ الملل ولم يعد يتّسع الصدر ولا الذهن ولا الوقت للمطوّلات الأدبية، كما امتصّت التحولات المتسارعة والصادمة المترتبة على ذلك فورة التعصب الوطني والقومي، وغيّبتها عن الساحة الإدراكيّة، فصار الزمنُ زمنَ الأدبِ الوجيز (الشعر، القصة القصيرة جداً)، وهذا ما تحتفي به السوق الإبداعية اليوم.
تحضرُ المرأة بقوة في كتاباتكِ.. هل يأتي ذلك بحكم الضرورة أم بحكم كونِك امرأة أدرى بخبايا قضاياها؟
حضور المرأة فيما كتبتُ حتى الآن لم يكن مقصوداً بذاته، باستثناء رواية “انشطارات دودة القز” التي تبوّأت نساؤها الثلاث البطولة المطلقة.. والمعاناة النسائية لا تهمّني بحد ذاتها، فما يهمّني أن أعبّر بلسان الإنسان عن الإنسان دون اعتبار للجنس.. المسألة مسألة الوجع، والتشظّي، والإفراج عن المكبوت والموؤود في الذات الإنسانية فحسب، أمَّا قضايا المرأة الخاصة جداً كإشكالية العلاقة مع الرجل فلم تسترعِ اهتمامي مطلقاً، وأصبحت من الموضوعات المستهلكة وغير الجذّابة في حاضرنا.
وكيف تقيّمين حضورها في الساحة الأدبية السورية؟ وما الذي ينتقصُ من هذا الحضور؟
حضور المرأة يتراوح بين الجيد ومتوسط الجودة، والمرأة السورية بكل الأحوال أقوى منافسة إبداعياً لنظيراتها العربيات، والواقع يشهد، وهذا ليس تحيّزاً وطنياً بحتاً، بل يستمد شرعيّته من الجهد الذي قدّمته وتقدّمه الأديبات السوريات من إصداراتٍ ومتابعاتٍ للجديد، وإحياءٍ للمناشط الأدبية حيثما استطعنَ إلى ذلك سبيلاً.. وغيابُ النقد المجتهد والراصد لإبداعات المرأة السورية سببٌ كبير في تراجع الأداء، كما أنَّ ظروف الحياة السورية مؤخراً نحَّت الإبداع النسائي، أو حاولت تكبيله بالقيود الثقيلة لانصرافِ المرأة (المسؤول الدائم والأول في مجتمعنا) إلى إنقاذ أسرتها من وباء الحرب الميدانية والاقتصادية، والسعي وراء لقمة العيش، كما أنَّ النظر بعين الشك إلى الإبداع النسائي المتفوّق على أنه صناعة “ذكورية” مُهداة إلى المرأة يُسهم إلى حد كبير في الإساءة إلى مُبدعاتنا المجدّات القديرات.
يستهويكِ عالم الطفل وتتوجَّهين إليه بكتاباتكِ وفي رصيدكِ عدّة مسرحيات في هذا المجال.. ما خصوصية ما تقدّمينه للطفل؟ وما رأيكِ بما يقدَّم له؟ وما هي أكثر المطبَّات التي يقع فيها من يتوجّه إليه؟
الطفولة لا تزال حبيسة معلّبات العقد الخمسيني والستيني من القرن الفائت، ويدّعي كثيرون أنهم أخرجوها من رفوف المعلبات والوجبات مسبقة التحضير إلى مواقدِ الطهو الحديث الذي يتماشى مع ذائقة وتقبل طفل اليوم.. وأقول “آهٍ من الطفولة”، لأنّه يصعب التعبير عن أفكار الطفل وتقمّص عقليته ومحاكاة أنماط سلوكه.. و”آهٍ عليه” لأنّه مامِن أدب، خلا استثناءاتٍ قليلة، استطاع أن يُقارب هموم الطفل ويُرضيه كما ينبغي.. وأكثر المطبَّات التي تتعثر بها أقلام أدباء الأطفال هي المباشرة والوعظيّة التعليمية وتصدير الأحكام الجاهزة ومصادرة حق القارئ الصغير في الاستنتاج وفي إنماء الخيال وتوسيع الرؤى وصناعة الحدث كما يتصوّره لا كما نتصوّره نيابة عنه.. كما يعاني الأدب الطفلي من التقليد والتكرار وإعادة الأفكار السابقة والحكايات المعروفة إلى الواجهة بسذاجتها الملحوظة والعمل على “تدويرها” لبثّ روح جديدة فيها، دون جدوى، إذ يبدو أنَّ خيال أدباء الأطفال قد نضبَ عن آخره، ولم يعد بالإمكان أن نسحر القارئ الصغير بجديدٍ مبهجٍ للقلب وآسرٍ وسارّ للخاطر، كما أنَّ عزوف دور النشر عن تشجيع الإبداع الطفلي وتفضيل الرواية والشعر عليه هو عاملٌ أساس في تراجع المنشورات الخاصة بهذا الجنس المهم.. هذا بالنسبةِ إلى الشقّ الثاني من السؤال، أمَّا ما أقدّمه أنا شخصياً للطفل فلا يصحّ أن أحكم عليه بنفسي، ولكن في ضوء ما صدرَ لي من أدبٍ طفلي نثري وشعري تكفّلتْ به دور النشر التابعة للجوائز العربية، فإنّي أوجزُ الإجابة بما يلي: أهمّ سمات ما قدمته للقارئ الصغير هو العناية الفائقة ببثّ روح الدعابة والفكاهة، مقترنيْن بالمعلومات العلمية أو بالطرح القصصي غير المسبوق، مع شحنةٍ مكثّفة من التخيل وإطلاقِ الإلهام، وقد استمدّيتُ هذا الوصف من أحدِ تقارير اللجان التحكيمية حول أحد أعمالي الفائزة.
تتنقلين بين أجناس أدبية مختلفة.. إلى أيّ منها يميل قلمكِ أكثر؟ ولماذا؟
يميل قلم الأديب حيثما تأخذه الفكرة، فالقلم خادمٌ للفكرة وللعباءة التي تلبسه إياها، فقد تشرّق الفكرة صوبَ القصة، وقد تغرّب نحو الرواية إذا ما كانتْ أعمق، وقد تضيقُ وتتكثّف، فتنحو منحى الشعر، وقد تتعدد حواملُها والمتشدّقون بها، فتقودها التعددية إلى المسرود المسرحي.. وهكذا فالشرط الضروري واللازم للإبداع هو عدم الاشتراط والحرية التامة في التجوال بين مشاعب الإبداع ووديانه وجباله وسمائه وأرضه.
كيف تعاملَ النقد مع كتاباتكِ؟ وما أبرز ما يشوبُ ممارساته برأيكِ؟
قدّم لي النقد خدماتٍ جُلّى، ورافقني منذ بداياتي بكرم وسخاء، واتّسم بالجدية والتبصر والبعد عن التملق والمبالغة والمعرفة السابقة أو الشخصية.. وأدينُ بالشكر في هذا المقام إلى نقادٍ كبار مثل: د. نضال الصالح، د. يوسف حطيني، الأديب وليد معماري، الأديب حسن م. يوسف، د. عبد الله أبو هيف، إضافة إلى صحفيين غير مختصين، لكنّهم شغلوا إدارة تحرير الصفحات الثقافية في دورياتهم آنذاك، وأقول “آنذاك” تأسيساً للإجابة عن الشق الثاني من السؤال، فأبرز ما يشوبُ النقد هو خلاف ما ذكرته عن بداياته وانطلاقته الجادة في التسعينيات، حيثُ ازدهرَ وكانت تقام له المنابر والمنتديات.. واليوم النقد مؤسسٌ على العلاقات الشخصية والشبكة العنكبوتية للمصالح المشتركة والتوصيات بهذا وبذاك وبذيّاك، وهو مرتبط بصاحبِ الحظوة عند صنّاع القرار الإعلامي والثقافي، وكفاه بذلك انحداراً وابتذالاً.
تتعاملينَ مع الشعر في مسيرتكِ على أنّهُ هواية.. هل هذا صحيح؟
نعم.. الشعر هواية تُريحني وتستنبش مشاعري وتطلق أجنحة هواجسي وتُبعثرها في نصّ مكثّف ولمّاح، لكنّه بقراءة أخرى مزيجٌ إكسيريٌّ ساحر يجعلني أتنفس الصعداء، مستمتعةً بنِعَم الخيال وفضائل التعبير والإنشاء وبإحساس براحة هائلة وانشراح كبير يتبعان الانتهاء من العمل الشعري، وربما يرافقان النشاط الإبداعي.
تعملينَ كمدققة لغوية في العديد من دور النشر العربية.. كيف يؤثر هذا العمل عليكِ كمبدعة؟
التأثير الأبرز يكمنُ في تأخير الإنتاج الأدبي نظراً لقلة الوقت المتاح، فالتدقيق اللغوي مهنة شاغلة لصاحبها بامتياز، وتكاد تستحوذ على وقته بالكامل، وقد اضطرُّ في كثير من الأحيان إلى الاعتذار عن نشاط أدبي ما بسبب الرغبة في إنهاء بعض الالتزامات المهنية مع دور النشر، أمَّا التأثيرات الجانبية – إذا جازَ لنا استعارة المصطلح الطبّي – فتتجلّى في النزوعِ إلى اصطفاءِ أدقّ المفردات، وإلى العنايةِ الفائقة بالضبط وبتشكيل الكلمات، حتى لو كان المغزى واضحاً.
أيُّ جديدٍ لديكِ اليوم؟ وإلى ماذا تطمحين؟
جديدي مجموعة مسرحية غنائية للأطفال تتكئُ على الموروثِ الحكائيِّ العربيِّ والعالميِّ في صياغةٍ معاصرة.. وأطمحُ إلى جوائزَ جديدة، فقد قدَّمتْ لي جائزة مانديلا دفعاً وتحفيزاً غير مسبوقيْن.