الطوابع الشعبية في الشعر الأندلسي
لطالما قيل أن الشعر العربي هو ديوان العرب، فكان العرب يحفظون تراثهم في ذاكرتهم شفاهياً، وكان الشعر ملاذاً لهم يحفظ أخبارهم والأحداث التي تجري في حياتهم، وسجل الشعراء على مر العصور أحداث الكبار ونقلوا من أخبار الناس ما يضيف إلى التاريخ المعروف تاريخاً آخر ضرورياً ليبين معالم الحياة المختلفة، وكان الشعر الأندلسي جزءاً من حركة الشعر العربي على اختلاف أزمانه، لكنه احتفظ بخصوصية ذات جوانب متعددة، ومن هنا تأتي أهمية كتاب “الطوابع الشعبية في الشعر الأندلسي” لأستاذ الأدب والنقد محمد رضوان الداية الذي رأى ما تفرد به الشعر في الأندلس عن غيره من الأقطار وخصوصيته في حمله فكرة التعبير عن الناس وأحوال البلاد والانغماس بقضايا الأمة الصعبة، والكتاب من إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب يقع في 191 صفحة من القطع الكبير.
احتضان الوجدان
يبين المؤلف أن الطوابع الشعبية تعني بأن الشعر يفصل من قلوب شعوبه وأفئدتها، وينطق بلسانها في مختلف العصور، فهو دائماً يصور حياتها وآلامها وآمالها سواء في عصور الابتهاج أو في عصور الابتئاس، وكان هذا التصوير على أتمه في العصرين الجاهلي والإسلامي لنقاء اللغة آنذاك من العامية، ومع ذلك ظل الشعر الفصيح في العصور المختلفة هو الذي يترجم عن مشاعر الشعوب العربية.
الرغبة في أن يصحح الرأي المخطئ الذي شاع وذاع على ألسنة كثيرين هي كانت السبب في تأليفه الكتاب والغاية منه، حيث أراد الباحث رصد هذه الطوابع الشعبية في الشعر الأندلسي على سبيل الاستيفاء على قدر ما تسمح المصادر، وتفصيل ذلك بحسب الموضوعات المختلفة في فنون الشعر وأغراضه، وأنواع النظم الأخرى التي اشتهرت بها الأندلس؛ الموشحات والأزجال، وظهرت في الأندلس موضوعات، أو كان صوتها فيها عالياً، وهو من خصوصيات الأندلس: من بكاء المدن الضائعة أو الخربة، وشعر الاستنجاد والاستنصار، والتشوق إلى البلاد لكثرة الرحلات، وكثرة الهجرة، لاسيما بعد تساقط المدن والدويلات.
ويظهر المؤلف أن الأندلسيين انفعلوا بأحداث بلادهم وأحوالهم، وسجلوها، وكان للشعراء أثر في هذا التسجيل، وكان الشعر حاضناً لنبض الشارع، وعواطف الناس وآمالهم، وكان متنفساً للشاعر الأديب الملتزم للشكوى من الظلم، والدعوة إلى الاتحاد، والتحذير من التفريط. وهكذا صار الشعر الأندلسي على يد شعراء ذوي نباهة ومسؤولية انعكاساً لحياة الناس في بلدانهم وقراهم وبواديهم، وصار للشعر مهمة احتضان وجدان الناس وعواطفهم وشكاواهم، إذ نزل الشاعر إلى الناس وصار واحداً منهم، وكان صوتهم وخاطبهم بما ينفعل في نفوسهم.
الفردوس المفقود
يقدم الكتاب للقارئ أموراً عديدة منها: الكلام على الطابع الشعبي في الشعر الأندلسي، محاولة الربط بين التاريخ السياسي والحضاري وبين مجريات حركة الشعر هناك، تفسير نصوص شعرية ذائعة ووضعها في موضعها من تاريخ الشعر الأندلسي، تكملة صورة الحياة الأدبية والثقافية والفكرية عن الأندلس في مخيلة القارئ العربي وتذكيره بهذا الجانب المهم من حياة الأدب العربي في ما يدعوه المؤرخون بـ”الفردوس المفقود”، ويعده سائر الباحثين جزءاً متمماً للفكر العربي، في المكتبة العربية كتاب، فيه جدّة وطرافة، وفهم متقدم لحركة الشعر العربي، ولا أعرف له نظيراً على هذه الصورة التي جاء عليها، هو كتاب الدكتور شوقي ضيف المعنون: «الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور»، وكان أصل الكتاب محاضرة ألقاها في إحدى الجامعات العربية، ثم صارت- بعد تطويرها- كتاباً جديداً من كتبه الكثيرة النافعة.
فن الغزل
يتضمن الكتاب عناوين عديدة، وتحت كل عنوان معالجة لقضية أراد من خلالها المؤلف أن ينصف الشعر الأندلسي وأدباءه وشعراءه، ويطلع القارئ على ومضات مشعة مشرقة من شعر عربي نشأ في نلك الديار ووصل إلى المغرب والمشرق وتمم صورة الشعر العربي. فكان من ضمن العناوين: الأندلس بين المشرق والمغرب، الموشح الأندلسي، الزجل، الرثاء، المدح والوجدان الشعبي، الزهد، الغزل والنسيب، نظم السيرة النبوية، المولديات والنبويات، الدعابة والدعابة الساخرة، النقد الاجتماعي، الطبيعة الأندلسية، الدفاع عن الوجود، العتاب.
ويعتبر فن الغزل من أهم أغراض الشعر في المشرق والأندلس، وقد أسهم أمراء بني أمية وخلفاؤهم في نظم الشعر الغزلي، فكان ابن حزم في “طوق الحمامة” وابن زيدون أكبر شعراء الأندلس وأكثرهم اهتماماً بغرض الغزل وشاعت أشعاره الغزلية وهي تدور حول ولادة بنت المستكفي، فكانت له مكانة خاصة وذاعت قصائده وحفظت، وغيرهم الكثير.
توجه الغزل الأندلسي إلى استيفاء أحوال الغزل المشرقي، إن شعراء الغزل في الأندلس تمثلوا طابع الغزل العربي القديم وموضوعاته حتى العناصر البدوية إذ يرددون ذكر الأطلال والأماكن الحجازية والنجدية وإبل البادية وغزلانها وظباءها وأزهارها وأشجارها، وتمثلوا تمثلاً بارعاً الغزل العذري العفيف بكل ما فيه من طهر ونقاء ولوعة وكل ما فيه من عفاف وحرمان.
ومن الشعر الذائع عند الأندلسيين:
أغار عليك من عيني رقيبي ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
كما ظهرت الدعابة الساخرة في قصائد العديد من الشعراء الأندلسيين مثل يحيى بن حكم الغزال وابن عبد ربه وابن الطراوة.
بين صفحات هذا الكتاب دراسة متأنية محدودة الإطار عن فصول من حياة الشعر الأندلسي، وإطلالات على عدد من شعرائه ووقفات عند قضية الطوابع الشعبية في عدد من أغراضه وألوانه تقد للقارئ أنماطاً من الشعر الأندلسي، ذلك الشعر الذي ظلت ذكراه في النفوس وما تزال محبته تملأ القلوب.
عُلا أحمد