أوراق لها حسابات.. وهي الآن للتاريخ

“البعث الأسبوعية” ــ عُلا أحمد

لأن للتاريخ قيمة واحتراماً ومكانة، ولأنه يعطي دروساً للحاضر وعبراً للمستقبل، ويقدم قراءة تفصيلية لأيامنا، وحرصاً على أن يتم نقل الأحداث بأمانة، تستكمل د. نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، الجزء الثاني من كتابها “أيام عشناها وهي الآن للتاريخ”، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والذي تعيد من خلاله نشر مقالات كتبتها منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين والنصف الأول من ثمانيناته.

 

لا نبكي بل نتذكر

بلغة عالية سلسة بعيدة عن التكلف، وبحرقة بادية في كلماتها، تستذكر د. العطار في أولى مقالاتها الحديث عن مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث أن الشهادة والبطولة وجهان لوجود أعظم. تتذكر كيف كانت تحثها نفسها على الكتابة بطريقة عاطفية بمناسبة مرور عام على المجزرة، ثم استهدت إلى حل ألا وهو الكتابة عن المذبحة نفسها، وتؤكد على أنه عندما نتحدث عنها فـ “إننا لا نبكي بل نتذكر”.

المذبحة من هولها فاجعة تجل عن الوصف، فهي ردة إلى جنكيز تنتمي، والمأساة الهمجية التي حدثت تصاغرت أمامها ساحات الإعدام، والضحايا صفوف والرصاص يجندل وقد تجمد الذعر في العينين؛ وفي الكلام الأليم عن الذكرى الأولى لا يفوتنا أنهم يحضرون لنا مذابح أخرى مماثلة، فالمصادر المطلعة تؤكد أننا في الشرق الأوسط أمام فيتنام جديدة مسرحها هذه المرة لبنان. مقولة “التاريخ لا يعيد نفسه” لا تصلح لواقعنا الآن، فالتاريخ ما زال يكتب نفسه بشكل مستمر عندنا، صحيح أننا نقرأ أوراقاً من الماضي إلا أن حضورها مازال قائماً، وما أشبه اليوم بالأمس، ففي وصفها لأحداث المجزرة تتحدث عن أنظمة عربية “معتدلة” حسب التعبير الأمريكي المفضل، لكن هذه الأنظمة إذا ما نشبت الحرب بين أمريكا وسورية لن تستطيع الاحتفاظ باعتدالها طويلاً، وستصبح معرضة لخطر نقمة شعوبها، وستكون عاجزة عن الوقوف ضد الرأي العام العربي، وضد اللهب الذي سيمتد ليحرق مصالح وأصابع من يجازفون بالوقوف خارج المعركة العربية، أو مع العدوان الأمريكي مباشرة. إن الحرب التي اجتذب إليها حكم الكتائب إسرائيل وأمريكا لن تبقى حرباً محلية ولا محدودة، وإزاء هاتين القوتين الإقليمية والدولية، هناك قوى إقليمية ودولية مقابلة، فالاتحاد السوفيتي لا يتعاطى مع المستجدات اللبنانية بالتحذيرات والإنذارات كما في الماضي، بل هو يعمل أكثر مما يتكلم، ويترجم عمله إلى عوامل ردع بالغة الشدة.

 

صانع الأعجوبة

وإذا كانت ثورات الشعوب هي سمة هذا العصر، فإن تجدد هذه الثورات بين مفاصل المراحل هو ميزة تملكها الثورة وحدها، ويقوم بها قادة ثوار يؤمنون بسنة التغيير وصولاً إلى الأرقى، والانتقال من مرحلة الجمود إلى مرحلة النشاط، ومن السلب الذي أصبح معوقاً إلى الإيجاب الذي ينبغي أن يصبح دافعاً، لأن قدرة الثورات على التجدد تلقائياً تحتاج إلى قيادة ثورة واعية لأهمية التجدد، وقادرة بسبب من قوتها وشعبيتها أن تفرضه على مسارها. وهنا تتحدث وتصف د. العطار القيادة التي ظهرت في سورية في مقالها الذي حمل عنوان “ميثاق جديد ومرحلة جديدة”، وبكلمات موضوعية كيف أصبحت لدينا هذه القيادة منذ ظهر الرئيس (الراحل) حافظ الأسد فقاد الحركة التصحيحية، مفجراً بالنسبة لثورة الثامن من آذار ثورة في قلب الثورة، ومحدثاً انعطافاً كبيراً في المسيرة حيث أنهى عزلة الشعب عن السلطة، وعزلة سورية عن المحيط العربي، وأعاد لها مكانتها الدولية بما قام به من نشاط سياسي حدد فيه وعلى ضوء مصلحتنا القومية جبهة الأصدقاء والأعداء، وعرف بذكاء نادر أن يضع لسورية مبادئ ثابتة تتلخص بتحرير الأرض واستعادة الحقوق واعتبار القضية الفلسطينية جوهر القضية العربية، وحركة التحرر الوطني العربية جزءاً من حركة التحرر الوطني العالمية، والثورة العربية فصيلة من الثورة العالمية، وبهذا كان أميناً على الخط الاستراتيجي.

لقد كان الوضع العربي في بداية السبعينيات يحتاج إلى أعجوبة وكان الرئيس حافظ الأسد هو صانع هذه الأعجوبة، فالرئيس الأسد هو ثائر قبل أن يكون حاكماً، هو مناضل قبل أن يكون سياسياً، كان إلى جانب التغيير والإصلاح، وإلى جانب تعرية الأخطاء وكشف الحقائق مهما تكن مؤلمة، وكان إلى جانب تحمل افتراءات الأعداء بصبر وشجاعة في سبيل أن يبلغ هذا القطر ما يريد من إصلاحات جذرية.

 

اللعب بالنار

ولأن لبنان خاصرة سورية الرخوة، فقد ركزت د. العطار في مجمل مقالاتها تقريباً على خطط أمريكا وإسرائيل للهيمنة على لبنان واتخاذها مطية لإخضاع سورية، فمن موقع القوة الذي حصلت عليه إسرائيل وأمريكا في لبنان بعد الغزو والاجتياح الهمجيين، تريد كل منهما أن توظفه لحسابها: الأولى ترتيبات أمنية وتطبيع علاقات وإخراج لبنان من الصف العربي واتخاذ أرضه منطلقاً للعدوان على سورية، والثانية جعل لبنان محمية أمريكية للهيمنة على المنطقة وفرض مشروع ريغان، لكن سورية تعارض المخطط الأمريكي – الإسرائيلي هذا معارضة شديدة، فهي مع الشرعية اللبنانية في طلبها انسحاب القوات الإسرائيلية، والقوات السورية مستعدة لمغادرة لبنان فور انسحاب إسرائيل منه، وتؤيد وحدة لبنان أرضاً وشعباً، وتعتبر أمن لبنان من أمن سورية.

وطبعاً، فإن سورية على ثبات في مواقفها وفي إرادتها المبدئية والقتالية، وهي تمارس سيادتها على أرضها كما تريد، وتحمي نفسها بالشكل الذي تريد ولن تأبه للتهديد والوعيد.

وللإحاطة بجوهر الموقف السياسي كان لا بد من الدخول بعمق إلى مواقف الاتحاد السوفيتي من قضايانا العربية، وخصوصاً موقفه من سورية؛ فبعد أحداث حزيران 1982 في لبنان، بدا كأن كل شيء قد أصبح في قبضة أمريكا وإسرائيل في المنطقة، حتى أن صحيفة عربية رجعية كتبت تقول: منذ العهد العثماني، لم تمتلئ المنطقة بنفوذ دولة واحدة كبيرة مثل امتلائها الآن بنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية. لقد حسبوا أن جبهة الصمود التي تقودها سورية قد ركعت نهائياً، وأن المتطرفين الذين يرفضون ويقاومون كامب ديفيد أُخرجوا من المعركة، لكن على الرغم من أن المخطط بشقيه العسكري والسياسي ما زال قائماً إلا أن أصحابه لا يتوقعون أن يتوصلوا إلى فرضه بالسرعة المأمولة، ويزيد مأزقهم خطورة أن الزمن ليس لصالحهم بل هو لصالح قيام جبهة عربية مناهضة للحل الأمريكي ومتصدية للعدوان الإسرائيلي، وهذه الجبهة العربية تستند إلى قوى عربية ذات وزن وتستند بشكل فعال إلى أسلحتها المتطورة وصداقاتها الواسعة وموقف حازم من الاتحاد السوفيتي بلغ من شأنه أنه أعلن صراحة عدم سماحه بأن تتكرر مأساة لبنان على أرض سورية، ومن أقوال السيد الرئيس حافظ الأسد لدى استقباله وزير الخارجية الفرنسية كلود شيسون: “إن الموقف الأمريكي هو العقبة أمام السلام العادل الني ننشده، ونحن لا يساورنا القلق على المستقبل، والإسرائيليون لن يستطيعوا تحقيق النصر في نهاية الأمر”.

ولا يغيب عن بال د. العطار أن تتحدث عن دور الدوائر العسكرية الأمريكية والإسرائيلية التي كانت تبحث بسرية مطلقة عن صواريخ سام 5 الموجودة في سورية، وهذا البحث يتلخص بما يلي: ماذا سيكون موقف الاتحاد السوفيتي إذا قامت إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية على سورية بقصد تدمير هذه الصواريخ، ووقف القوة العسكرية السورية المتنامية قبل بلوغها التوازن الاستراتيجي الذي يبدو أن دمشق مصممة عليه؟ ذلك إن إدارة ريغان لا تستطيع إلا أن تأخذ بالحسبان إمكانية تدخل الاتحاد السوفيتي في القتال الذي ينشب في الشرق الأوسط، وهذه الإدارة تعرف أن التدخل سيكون فعلاً لا قولاً؛ وبعد كل التهويل الذي قامت به الوسائل الإعلامية الأمريكية والإسرائيلية حول خطر الصواريخ في سورية، وخطر النفوذ السوفيتي الذي يتخذ من سورية قاعدة أمامية، تعود هذه الأجهزة إلى التهدئة، وأن الأزمة محدودة ولا تخرج عن نطاق مناورة إسرائيلية لإرهاب الصواريخ السورية.

في ضوء المعطيات، يجب فهم اللعبة الأمريكية في المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية الدائرة، فأمريكا تريد من لبنان أن يتنازل لإسرائيل تحت عنوان “أنصاف الحلول”، والتي تقوم على إبقاء الجنوب اللبناني محتلاً من قبل إسرائيل بواسطة جيش العميل سعد حداد.. يريدون إقناع لبنان بعجزه عن فرض الأمن على أراضيه، لذلك يفتعلون الأحداث الدامية، ويعطون من خلالها الحجة لإسرائيل كي تبقى، وبأن الجيش اللبناني غير قادر على حفظ الأمن قبل سنتين على الأقل، وبالتالي لبنان سيظل تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبحكم ذلك سينتظر “الإنقاذ” الأمريكي، الذي اسمه “غودوت”، والذي لن يأتي أبداً.

 

المكر الأمريكي

جاءت المقالات في الكتاب مفصلة للأحداث والمواقف التي رافقت تلك المرحلة في لبنان وعلاقتها بسورية، ففي مقال “أمريكا تدفع بالعدوان على سورية”، قالت د. العطار أنها لا تكتب هذا المقال لمناقشة الكتائب المتسلطين على السلطة، بل لغرض آخر، وهو الأهم والأخطر لأنه يرتبط بموضوع تحريض أمريكا للضغط على سورية، ولتوجيه ضربة إليها عن طريق إسرائيل، وأمريكا تدفع باتجاه هذه الضربة لتسلح إسرائيل وتشارك في وضع خطط الحرب معها، وهذه المرة تبدو مدفوعة إلى العدوان بإلحاح من أمريكا التي تتظاهر بأنها تريد التهدئة بينما تضع الترتيبات العسكرية في تل أبيب عن طريق وفدها العسكري الذي وصل بحجة الإفادة من خبرة الغزو للبنان، وهو في الحقيقة جاء للاتفاق على خطة الحرب وموعدها.

ومن التحليلات التي أوردتها د. العطار، ما تضمنه مقال بعنوان “تمركز المعركة في جنوب لبنان”، حيث ذكرت أن معركة اتفاقية الصلح المصرية الإسرائيلية واتفاقات كامب ديفيد وسياسة السادات الاستسلامية لم تعد في واشنطن أو القاهرة أو تل أبيب، بل في جنوب لبنان، وعلى خاصرة سورية، والسياسة الأمريكية لا تعتمد على السادات ودور الدركي الذي رشح نفسه له، ولا على الخليج العربي، ولا على الحزام العسكري الذي تريد إقامته حول الاتحاد السوفيتي، بل على إسرائيل وحدها مع تكثيف جهود الحلف الثلاثي الأمريكي الإسرائيلي الساداتي.

لقد كانت وجهة النظر الإسرائيلية أنه لا خوف من العرب على المصالح الأمريكية، وبعد ثلاثين عاماً من التخوف الأمريكي من عمل عربي ضد المصالح الأمريكية، تُظهر الأحداث أن النظرة الإسرائيلية في محلها، وهكذا تكون أمريكا قد اقتنعت بوجهة النظر الإسرائيلية، ولهذا أعطت الضوء الأخضر كي تقوم بغاراتها الوحشية المستمرة على لبنان والتي الهدف منها إرغام الفلسطينيين على الهجرة من لبنان إلى البلاد العربية الأخرى، والاستيطان فيها، ومحاولة تفريغ الجنوب اللبناني من أهله وإجبارهم على النزوح. ولقد كذبت الإذاعة الإسرائيلية في خبر نسبته إلى مراسلها في واشنطن، حين ادعت، على لسان مصادر أمريكية، أن سورية نصبت في الآونة الأخيرة بطاريات صواريخ سام في جنوب لبنان، وكان هذا الكذب التحريضي من أجل تبرير أي هجوم تشنه إسرائيل ضد سورية، وتحضير الرأي العام العالمي لتقبل العدوان الإسرائيلي المنتظر، غير أن الإدارة الأمريكية التي سربت الخبر اضطرت إلى أن تكذبه بنفسها.

 

الحصاد المر

تتابع المقالات كشفها للأحداث وسردها بلغة الأدب السياسي، فتبرز لغة الدكتورة العطار لوصف أعمال الكتائب في لبنان ومؤامرتهم على سورية، فتقول: من يزرع الريح يحصد العاصفة، الحكم الكتائبي في لبنان زرع شوكاً فهل كان يحسب أنه سيحصد ريحاناً؟ فهو تخبط عميقاً في المستنقع الأمريكي، وسواء كانت إعادة الانتشار الإسرائيلية قد تمت بالتنسيق مع أمريكا ولبنان (الكتائب)، وهو أمر مؤكد، أو لم تكن كذلك، فإن إعادة الانتشار تعني ثلاثة أشياء: أولها أن إسرائيل ضربت عرض الحائط بالاتفاق اللبناني الإسرائيلي، وثانيها أنها ركزت احتلالها في جنوب لبنان وبدأت تسوره لأنه احتلال طويل الأمد، وثالثها أن التقسيم قد تم بين فريقين هما: إسرائيل والكتائب، إسرائيل تقتطع جنوب لبنان والكتائب بواسطة الشرعية المذعنة إليها تقتطع لبنان كله.

يمكن تلخيص الوضع بالتالي: بدأت فعلياً المرحلة الأمريكية الإسرائيلية الكتائبية في لبنان، وبدأت مرحلة من الكفاح اللبناني العربي الأشد صعوبة للحيلولة دون تأييد التواجد العسكري الأمريكي الإسرائيلي على الأرض اللبنانية والحيلولة دون المرحلة الكتائبية والبطش بكل القوى الوطنية وتمزيق لبنان وانتهاك أمنه، وهذه الكشوفات للمخطط الأمريكي الإسرائيلي الكتائبي تستند إلى معلومات أكيدة، والخطة التي يقال إن الجميّل توصل إليها مع شولتز وريغان تقوم على حرب القوات اللبنانية ضد سورية في المرحلة الأولى، واشتراك الجيش اللبناني الفئوي في هذه الحرب في المرحلة الثانية، وإظهار القتال كأنه بين لبنان وبين قوات غريبة عن أرضه يسعى لإخراجها.

 

خط النهاية

في نهاية الأوراق التي قُدمت – تتابع الدكتورة العطار – حان موعد الحوار، وبدا أن الحوار من أجل الحوار فقط، فوسط غابة من الشكوك والاتهامات تقرر أن ينعقد مؤتمر الحوار الوطني في جنيف، لا من حيث الأمل في أن يتمخض عن تفاهم كامل ورؤية موحدة، بل من حيث أن يكون الحوار على طاولة تُلقى عليها أوراق المتحاورين بصراحة.

أعلنت سورية، وبوضوح لم يترك شيئاً في الظل، أنها مع حرية لبنان وسيادته ووحدة أرضه وشعبه، وهي معه في النضال لإجلاء إسرائيل، إن في المنطقة خطراً وحيداً هو الخطر الأمريكي الإسرائيلي، وقد وضع الرئيس (الراحل حافظ) الأسد النقاط على الحروف تماماً حين قال: “لتعلم أمريكا أنها لن تقدر على ترويضنا، وكل حوار لن يكون على حساب موقفنا”، كما وضع النقاط على الحروف بقوله: “لتكون أمتنا قوية يجب أن تكون سورية قوية”، والإدارة الأمريكية تعرف أن سورية قوية، وأن وراء قوتها تقف قوى عربية ودولية، وأن قوتنا تتلازم فيها عملية التسلح بعملية التنمية، وأننا نريد السلام العادل لأنه في مصلحتنا، لكننا نرفض الاستسلام ولا نبالي بسبب هذا الرفض بكل التهديدات، هذه التي لم نبال بها في حرب لبنان، عندما كنا نفتقد التوازن، فكيف بنا الآن وقد انقلب الوضع لصالحنا، وحشرنا أعداءنا في الزاوية الضيقة التي أرادوا حشرنا فيها؟

وأخيراً بلغتها السياسية الأدبية العالية، قرأت علينا د. العطار أسفاراً من زمن مضى، ولكنه كان إرهاصات لما جاء بعده، فما تزال هذه المقالات عامرة بالنور تومض لنستشف منها طريقاً إلى المستقبل.